هل بمقدور الصين قيادة العالم؟

الدار البيضاء اليوم  -

هل بمقدور الصين قيادة العالم

عريب الرنتاوي
بقلم - عريب الرنتاوي

"القوة" و"الثروة" تمنحان من يمتلكهما القدرة على "السيطرة"، وهما تتغذيان إحداهما بالأخرى، فالثروة تعظم القوة، الأخيرة تفتح افقاً لمراكمة الأولى ... لكن لا القوة ولا الثروة، بمقدورهما منفردتين أو حتى مجتمعتين، تأهيل من يمتلكهما للعب دور "القيادة" ... القيادة يلزمها بعد ثالث: "الشرعية"، وهذه بالضرورة مستمدة من منظومة قيمية وأخلاقية.

من بين عناصر القيادة الثلاثة، يبدو مفهوم "الشرعية" الأكثر التباساً: الامبراطوريات الغابرة لم تكن بحاجة لاكتساب "شرعية ما"، لفرض سيطرتها على العالم، ولكن بعد أن استجدت الضرورة لإدامة السيطرة، بأقل الكلف ومن دون مقاومة من قبل الشعوب والمجتمعات "المُسيطر عليها"، بدأت المراكز الدولية الناشئة بالبحث عنها أو حتى "تخليقها"، تارة من كتب السماء ورسالاتها، فكانت الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وأخرى من مفاهيم "الإعمار" و"التحديث" كما في تجربة الاستعمار القديم والجديد، وثالثة من مفهوم "تعميم العدالة الاجتماعية" وإلغاء الفوارق بين الطبقات، كما رأينا في تجربة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.

عرفت البشرية في تاريخها، أشكالاً مختلفة من "السيطرة" الإمبراطورية والاستعمارية، بيد أنها ستنتظر حتى انبلاج القرن الماضي، لتشهد انقلاب "السيطرة" إلى "قيادة"، بامتلاك الولايات المتحدة لعناصر القيادة الثلاثة: القوة والثروة والشرعية المبنية على مبادئ ويلسون الأربعة عشرة، والدعوة لنشر قيم الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان... وفي كل مرة، كانت الولايات المتحدة تنحرف فيها عن هذه المنظومة القيمية كانت قيادتها للعالم تتحول إلى شكل من أشكال السيطرة والاستبداد.

نهاية الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الاشتراكي، فتحت الباب رحباً لـ"تعميم" القيادة الأمريكية للعالم، لكن الصين، بوصفها أحد قطبي هذا المعسكر إلى جانب الاتحاد السوفياتي، ستهتدي إلى ابتداع نظام "هجين"، سيمكنها من تفادي السقوط أو تأجيله، وهو نظام مزج بين أنماط الحكم السياسية الشمولية، تحت مظلة "الحزب الواحد والقائد"، ونظام اقتصادي يعتمد اقتصاد السوق والتجارة الحرة.

الصين وقيادة العالم

طوال العقود الثلاثة الماضية، نجحت الصين في صنع "معجزة اقتصادية"، وتحولت من مجتمع زراعي فلاحي متخلف، إلى "مصنع العالم"، وموردٍ للكثير من "سلاسل الإنتاج" في الاقتصادات العالمية الكبرى وشركاتها العملاقة العابرة للقارات، وتربعت في خانة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متحفزةً للمنافسة على الموقع الأول، وتأمل في انتزاعه من الولايات المتحدة في غضون عقدين أو ثلاثة عقود قادمة.

ثروة الصين المتعاظمة، مكّنتها من بناء عناصر القوة الأخرى، ومن بينها العسكرية، فالجيش الشعبي الصيني الذي نشأ على مفاهيم حرب العصابات و"المسيرة الكبرى"، تحول اليوم إلى جيش حديث، ينافس في البر والبحر والجو والفضاء، أقوى جيوش العالم وأحدثها، مع ميزة إضافية مستمدة من الفائض السكاني لبلد يزيد سكانه عن خُمس سكان العالم.

بخلاف امبراطوريات ومراكز دولية تبادلت السيطرة على العالم، اعتمدت الصين القوة الاقتصادية الناعمة لبسط نفوذها وتوسيعه، لم تلجأ إلى قوتها العسكرية الخشنة إلا في أضيق النطاقات ولفترات محدودة، وتحاشت التورط في الصراعات وبؤر الأزمات المشتعلة في العالم، ولم تُبد اهتماماً بمسألة "طبيعة أنظمة الحكم" في الدول التي تتعامل معها، فهي انفتحت حيثما أمكن على أعرق الديمقراطيات الغربية، من دون أن تتخلى عن تعاملاتها مع نظم استبدادية فاسدة ومجرمة، فالصين لم تحرر اقتصادها من قيود "الاشتراكية الصارمة" فحسب، بل وحررت سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية من فكرة "تصدير النموذج" التي حكمت الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ساعد ذلك الصين على تطوير مشروع "الحزام والطريق"، فالدول المنخرطة في هذا المشروع، ليس لديها ما تخشاه من الصين، فهذه لا متطلبات لها ولا شروط خارج "حسابات الربح والخسارة" ... والأمر متروك لسلطات البلدان الأخرى، لتقرر ما الذي يفيد اقتصاداتها، وما الذي يضعها بين أنياب التنين الصيني.

أدركت الصين، خصوصاً تحت قيادة شي جينبينع، حاجتها لشرعية قيمية وأخلاقية، تمكنها من الانتقال من "السيطرة" إلى "القيادة"، فشرعت في التخلص من دون "مراجعة" أو "نقد ذاتي"، من إرث مؤسسها ماو تسي تونغ، وتحديداً ثورته الثقافية باهظة الكلفة ... أخذت تبحث في تعاليم كونفوشيوس عن قيم السلام والتسامح ومحبة الجيران وتوادهم ... ومقابل راية "القيم الإنسانية المشتركة" التي طالما رفعها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ترفع بكين اليوم راية "المستقبل الإنساني المشترك"، فالعالم متعدد الثقافات والحضارات والأديان، يمكنه أن يتشاطر المستقبل ذاته، وبكثير من التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري النافع لمختلف الأطراف، دون أن تجد أي من بلدانه، حاجة للتخلي عن أيٍ من "قيمها"، وبالأخص، شكل نظامها السياسي، ومنظومة الحقوق والحريات المتاحة للمواطنين، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو "نظرية العقد الاجتماعي".

وفيما كانت الصين تطور رؤيتها الخاصة لعناصر "القيادة" الثلاثة، وتحديداً في العقد الأخير، كانت الولايات المتحدة، تشهد تراجعاً في دورها القيادي العالمي، وتخبطاً في إدارة سياساتها الخارجية، وانسحاباً من المسرح الدولي لصالح نزعات انكفائية داخلية، بلغت ذروتها مع الإدارة الحالية، وإن كانت لم تبدأ معها ... أما على المستوى الداخلي، فكان "النموذج" الأمريكي في الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان، يمر بأكبر امتحان له في المائة عام الأخيرة، من صعود قوى اليمين الانعزالي "الشعبوي"، وما تستبطنه من مواقف مناهضة للاجئين والمهاجرين والأقليات والنظام القضائي والصحافة والإعلام، وما يخلفه من حالة انقسام واستقطاب غير مسبوقين في المجتمع الأمريكي.

جائحة كورونا: الفرصة والتحدي

في الوقت الذي تتعاظم في الانتقادات للصين لعدم شفافيتها وإفصاحها عن الوباء في وقت مبكر، كانت إدارة واشنطن المرتبكة وغير الكفؤة للجائحة، تحظى بانتقادات مماثلة ... لكن القوتين العظميين لن تدعا "كورونا" تمر، من دون أن تسجلا أهدافاً مؤلمة، إحداهما في مرمى الأخرى، بالذات لجهة "الطعن في شرعيتها القيمية والأخلاقية" ... واشنطن، تحمل بكين وحزبها الشيوعي وزر انتشار الفيروس، والصين تسعى في إبراز الطابع الأخلاقي لسياستها الخارجية عبر منظومة المساعدات التي هبّت لتقديمها للعديد من الدول المنكوبة، وبصرف النظر عن الخصومة السياسية معها.

من الصعب الجزم من الآن، من سيكون الرابح أو الخاسر في "المباراة الأخلاقية" أو الصراع على "الشرعية" بين العملاقين، فالبشرية جمعاء، ما زالت في قلب المعمعة، والحرب ضد الفيروس لم تضع أوزارها بعد ... صحيح أن الصين ربما تكون كسبت "الجولة الأولى" منها، فهي اليوم تحظى بإشادات دولية واسعة، رسمية وشعبية، على إدارتها الحاسمة للأزمة ومد يد العون لدول أخرى منكوبة ... لكن الصحيح كذلك، ان ثمة جولات قادمة، ستقرر النتيجة النهائية لهذه "المباراة": من سيخترع العلاج ومن سيكتشف اللقاح، وهل سيجري التعامل بأنانية مع هذه الاختراعات والاكتشافات؟... هل سيجري "تسييسها" بحجبها عن الخصوم؟ ... وهل ستتغلب المعايير الإنسانية على المعايير التجارية عند تعميمها؟

المعضلة الصينية

تستطيع الصين أن تمضي بعيداً في بناء عنصري "القوة" و"الثروة"، وستتمكن من بسط سيطرتها، الاقتصادية والمالية بخاصة، على مساحات واسعة من العالم ... لكن الصين ستظل تواجه مأزقاً حقيقاً، حين يتعلق بالأمر بالعنصر الثالث لـ"القيادة": "الشرعية" ... فلا تعاليم كونفوشيوس ولا نظرية "المستقبل الإنساني المشترك"، تحمل أجوبة مقنعة لأسئلة البشرية وتساؤلاتها، في لحظة اشتداد الحاجة لنظام عالمي جديد، أو في لحظة البحث عن حلول لمأزق الديمقراطية المتفاقم، والأرجح أن الإجابة على هذه الأسئلة والتساؤلات، ستأتي من الغرب وليس من الشرق، سيما إن تعافت مراكزه الكبرى: واشنطن بخاصة، من أزماتها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية.

وستواجه الصين عاجلاً أم آجلاً، مأزقاً مزدوجاً: فكلما تعزز نفوذها الاقتصادي العالمي، اشتدت حاجتها لمنظومة قيمية تتشاطرها مع العالم وتعزز دورها القيادي بدلاً عن دورها المسيطر ... وكلما تنامى دور قطاعات الأعمال الخاصة والحرة في اقتصاداتها، كلما اشتدت الضرورة لخلق المواءمة الضرورية بين نظامها السياسي "الأحادي" ونظامها الاقتصادي "التعددي".

قد تسجل الصين نجاحات كبرى في تمديد نفوذها في دول آسيا وأفريقيا، وربما تنجح في تعظيم تجارتها وتبادلاتها وديونها لدول غربية عديدة، وهذا سيجعل منها قطباً دولياً أساسياً، ولكن من ضمن نظام "متعدد الأقطاب" ... لكن أن تنجح الصين في فرض قيادتها للعالم ولنظام عالمي جديد، فهذا أمرٌ يبدو مستبعداً، بغياب العنصر الثالث للقيادة: الشرعية ... وسيكون التنين الصيني أمام تحدي الاختيار بين واحد من خيارين: إما أن يكتفي بدوره كقطب من ضمن أقطاب متعددة، يبسط سيطرته على مجال حيوي معين في الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية، أو أن يتكيف مع حاجة البشرية لمستقبل مشترك، مبنيّ على منظومة قيمية وأخلاقية مشتركة، بعد أن يكتشف أن البشرية التي سئمت الامبراطوريات السلالية والنظم الشمولية، ستظل توّاقة لحريتها وتعدديتها وحقوقها غير القابلة للتصرف.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل بمقدور الصين قيادة العالم هل بمقدور الصين قيادة العالم



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 19:15 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 16:52 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تحرم الأهلي من رامي ربيعة في مباراة الإسماعيلي

GMT 23:44 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شمال الأطلنطي يحسم بطولة كأس الجامعات القطرية للرجال

GMT 15:27 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

التصميم المميز للزجاجة والروح الأنثوي سر الفخامة

GMT 08:49 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أليساندرو سارتوري يسرق الأنظار إلى "زينيا" بابتكاراته

GMT 12:55 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة منمبا في زنجبار تتمتع بمناظر طبيعية نادرة ورومانسية

GMT 04:30 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الإبلاغ عن العنف الجنسي يعصف بحياة السيدات في الهند

GMT 02:35 2017 الجمعة ,05 أيار / مايو

سيارة فيراري "275 غب" 1966 معروضة للبيع

GMT 05:29 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين تفتتح أفخم فندق سبع نجوم بتكلفة 515 مليون دولار

GMT 02:01 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 خطوات مميّزة للحصول على درجة علمية عبر الإنترنت

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 00:55 2018 السبت ,08 كانون الأول / ديسمبر

دي يونغ يتوقّع البقاء في "أياكس أمستردام" لموسم جديد

GMT 22:20 2018 الجمعة ,28 كانون الأول / ديسمبر

انقلابات نجاحات وتغييرات حاسمة

GMT 11:37 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

"شانيل" تبتكرُ قلادة لؤلؤية بطول 60 قدمًا
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca