ثلاثة أصابتهم فوضى الانسحاب الأميركي "المهرول" من كابل بالصدمة والخذلان: (1) شركاء "الناتو" على الضفة الأخرى للأطلسي. (2) حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط والخليج من حكام وحكومات وحركات. (3) منظمات المجتمع المدني ونشطائها في العديد من دول المنطقة ومجتمعاتها. كيف ذلك، وهل يمكن جبر الضرر، وإعادة ترميم صورة الدور القيادي للولايات المتحدة؟
من "الاعتمادية" إلى الاعتماد على الذات
الصدمة الأكبر كانت من نصيب دول الاتحاد الأوروبي، شركاء واشنطن في "الأطلسي" وحلفائها في الحرب الممتدة على أفغانستان منذ عقدين من الزمان، تصريحات قادتها أظهرت حجم الخيبة وثقل الإحساس بـ"الخذلان"، منهم من قال "كنا شركاء في الحرب ولم نكن كذلك عند الانسحاب"، آخرون عبروا عن الأسف لعدم قدرتهم حتى على الاعتراض على تمسك الرئيس بايدن بجدول زمنيضيق للغاية لإتمام الانسحاب، والجميع قرروا ترك "شرف" انسحاب آخر جندي من كابل من نصيب الجيش الأميركي، فهم لا يستطيعون البقاء ليوم واحد من دون الولايات المتحدة.
"مبدأ بايدن – Biden Doctrine" في السياسة الخارجية، الذي ينهض على فكرة "التعددية – Multilateralism"، بديلا عن "مبدأ ترامب" القائم على الانفراد والتفرد وتهميش الحلفاء وتجاهل الأصدقاء، تعرض لاختبار عميق في أفغانستان، وكانت نتيجته الفشل والاهتزاز، وفكرة بايدن عن ترميم العلاقة على ضفتي الأطلسي، منيت بنكسة كبيرة، وإدارته اليوم، باتت بحاجة لبذل جهود مضاعفة لكي تسترد ما فقدته من ثقة الحلفاء.
القارة العجوز، اكتشفت حجم الخطر والتحدي في "الاعتمادية" على الولايات المتحدة في سياساتها الأمنية والدفاعية، وسارع وزراء خارجيتها ودفاعها للاجتماع على عجل لاستخلاص الدرس الأفغاني وسد الفجوات في جدران القارة الدفاعية، ومن المقرر أن تكون قرارات كبرى بهذا الشأن، قد صدرت عنهم قبل نهاية العام الجاري.
الانتقال من "الاعتمادية" إلى الاعتماد على الذات، أمنيا ودفاعيا، كان منذ أزيد من عشرين عاما، هاجسا أوروبيا حاضرا على موائد البحث والتفاوض، ولقد كان للمملكة المتحدة العضو في الاتحاد حتى فترة قريبة، دورا في عرقلة أي جهد أوروبي ذي مغزى لإنشاء قوة أمنية ودفاعية، أو قوات تدخل سريع أوروبية، امتدادا لـ"نزوع أطلسي" وضع بريطانيا الأوروبية في مكانة أقرب للولايات المتحدة منها إلى القارة العجوز، ويذكر كاتب هذه السطور، اشتراكه منذ عقدين تقريبا، في مؤتمرات وندوات أوروبية، بحثت الأمر وما يثيره من تحديات وما يوفره من فرص، لكن حديث أوروبا عن سياسة أمنية ودفاعية مستقلة، مدعومة بقوة أوروبية ضاربة، ذهب أدراج الرياح من قبل، وليس هناك ما يدفع للجزم بأن مصير المحاولة الجديدة سيكون أفضل من سابقاتها، مع أن "الصفعة" التي تلقتها حليفات واشنطن الأوروبيات، بالانفراد الأميركي بقرار الانسحاب ومواقيته الصارمة، تعطي المحاولة الجديدة، جدية أكبر، سيما بعد "بريكست".
"المتغطي بأميركا عريان"
عبارة منسوبة للرئيس المصري الراحل حسني مبارك، صديق الولايات المتحدة وحليفها كذلك، أوردها وزير خارجيته أحمد أبو الغيط، وتعود للعام 2005، أي قبل اندلاع ثورات الربيع العربي وانتفاضاته بستة أعوام، حيث ستكون إدارة أوباما أول من يدعو مبارك للتنحي تحت ضغط "ثورة يناير"، وهي اليوم تعكس لسان حال عدد من قادة دول المنطقة وحكوماتها، سيما أولئك الذين وضعوا أمن أنظمتهم وبلادهم، تحت مظلة واشنطن وحمايتها.
تعزز مشاعر الخوف من التخلي والخذلان التي تتسرب إلى دوائر صنع القرار في عدد من عواصم المنطقة، ميلها لتنويع علاقاتها الدولية ومصادر تسلحها، سيما بوجود أقطاب دولية ناشئة كالصين وروسيا، ومع تراجع قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بموقعها "المتفرد" في قيادة العالم، وإذا كان الاتفاق الدفاعي السعودي – الروسي الأخير ليس سوى "أول الغيث"، فإن من المتوقع لهذا "القطر أن ينهمر" في مستقبل قريب، لا على الرياض وحدها، بل وفوق عواصم أخرى كذلك.
مشاعر القلق من التخلي والخذلان، تظهر على نحو أوضح في شمالي سوريا والعراق، حيث تتواجد القوات والقواعد العسكرية الأميركية، دعما لإقليم كردستان في العراق و"روج آفا" في سوريا، سيما وأنه لم يعد يفصل هذه المناطق عن انسحاب "الوحدات القتالية" الأميركية من العراق سوى بضعة أشهر، وسط مخاوف كردية واضحة على مصير الوجود العسكري الأميركي الذي يقف وحده، سدا منيعا حتى الآن، في وجه أعداء متربصين، من تركيا وجيوشها ومرتزقتها، إلى إيران وميليشياتها، وصولا إلى دمشق التي ما زالت على قناعتها بأن عقارب الساعة يمكن أن تعود إلى الوراء، وأن جلب الكرد إلى "بيت الطاعة الأسدي"، ما زال أمرا ممكنا، وهو السبيل الوحيد لحل مشكلاتهم في سوريا.
الأعوان وتجربة في "السقوط الحر"
تخلي واشنطن عن غالبية أصدقائها وأعوانها في كابل، وتركهم "فريسة" لطالبان وخطابها وممارساتها "القروسطية"، كان بدوره حدثا صادما بكل المقاييس، فلم يبق مسؤول أوروبي واحد، إلا وعبر عن "الخيبة" من "سقوط الغرب الأخلاقي"، وفي واشنطن، ستظل صور وأشباح من ماتوا في مطار كابل برصاص القوات الأميركية أو تحت عجلات طائرات الإجلاء، أو بـ"السقوط الحر" للمتعلقين بأجنحة هذه الطائرات وذيولها ستظل هذه الصور والأشباح تطارد هذه الإدارة لسنوات وعقود قادمة، بل وستبقى شاهدا مروعا على التخلي والخذلان والأنانية، هنا أيضا يمكننا الحديث عن انهيار ركن ثان من أركان ما يمكن تسميته بـ"مبدأ بايدن" في السياسة الخارجية وأدواتها الناعمة: "الديمقراطية وحقوق الإنسان".
لقد مرت قضية "نشر الديمقراطية وتعميم حقوق الإنسان" في العالم، بسنوات أربع عجاف زمن إدارة الرئيس دونالد ترامب، وقبل أن يتاح للإدارة التي ستخلفها، الفرصة لجبر الضرر وترميم ما انكسر من صورة واشنطن كرائدة للديمقراطية في العالم، جاءت الصور والفيديوهات من مطار كابل، لتلحق ضررا جسيما بهذه الصورة وتلك الريادة، وسيكون لها أثرا قد لا يمحى، في أوساط منظمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان ودعاة الديمقراطية في العالم بأسره، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، وسيضاف ذلك إلى جملة الانتكاسات والتحديات التي ألحقت بمشاريع الإصلاح والتغيير في هذه المنطقة، مما قد يعمق "إعاقتها الديمقراطية" ويزيدها صعوبة وتعقيدا.
والخلاصة، أن مفاعيل "الهرولة" الأميركية للانسحاب غير المنظم من أفغانستان، ستكون له ارتداداته وتداعياته، منها ما ظهر مباشرة وبصورة فورية، ومنها ما يحتاج لسنوات – ربما – لكي يترك آثاره على سياسات ومواقف حلفاء واشنطن، وخصومها المتربصين كذلك، وبصرف النظر عن مآلات سياسة الاعتماد على الذات الأوروبية، أو سعي أنظمة وحركات حليفة لواشنطن لـ "تنويع" تحالفاتها ومصادر تسلحها وتشديد قبضاتها على دواخلها، بصرف النظر عن الكيفية التي ستسعى بها واشنطن لإعادة الاعتبار لصورتها ودورها في العالم، فإن الأمر المؤكد أن مصائر مشاريع الإصلاح والتغيير في الشرق الأوسط الكبير، بل ومستقبل الديمقراطية في العالم بأسره، قد باتت محفوفة بمخاطر وعراقيل إضافية، وأن العشرية القادمة قد تشهد انتعاشا في أدوار قوى ومراكز إقليمية وعالمية، شمولية وديكتاتورية، وأنه سيكون لها بصماتها الناتئة في رسم ملامح نظام عالمي جديد.