عريب الرنتاوي
الضجيج المتصاعد حول الحاجة لفتح أفق سياسي ومسار تفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصولاً لتجسيد "حل الدولتين"، لا يعني أن أمراً كهذا سيتحقق، لا الآن، ولا في المدى المنظور ... وإذ تختلف دوافع و"نوايا" الأطراف التي تتحدث بهذه اللغة، إلا أن النتيجة العملية المتأتية عن أفعالهم جميعاً، لن تتخطى تعميم "الوهم" وتمويه "الخداع".
واشنطن لا تبالي الإكثار من ترديد أقوال كهذه، فهي ضرورية من وجهة نظرها، لتمرير جوهر استراتيجيتها الجديدة في المنطقة برمتها: إطفاء الحرائق، وإدارة الأزمات واحتوائها دون الغرق في "دهاليز" حلها، وهي الاستراتيجية التي تسير فلسطينياً على محورين اثنين: التهدئة (ومستلزماتها) على جبهة غزة، وإجراءات بناء الثقة بين السلطة وإسرائيل، وبما يفتح الباب عن قصد أو من دونه، لجعل هذه الترتيبات المؤقتة دائمة، والخطوات الإجرائية حلاً نهائياً.
في تل أبيب، ثمة حكومة ترى أن المقاربة الأمريكية تناسبها تماماً، برغم اعتراض هنا أو اختلاف هناك، فهذه الحكومة تستند إلى تحالف "هش"، لا يحتمل أي قرارات كبرى ذات طبيعة استراتيجية، ولطالما وصفت حكومات "الوحدة" في إسرائيل بأنها حكومات "شَلل سياسي"، على أن الجانب الآخر من الصورة، إنما يتجلى في كون المقاربة الأمريكية، تخدم على نحو أفضل، مصلحة إسرائيل في المضي قدماّ في مشاريع "الأسرلة" و"التهويد" و"الضم الزاحف"، تحت وابل كثيف من "الغبار والضجيج" حول السلام والاستقرار والبحث عن حلول، ودائماً، بأقل قدر من الانتقادات والأكلاف السياسية والأمنية والاقتصادية.
السلطة بلا خيارات بديلة، حتى بعد أن أفلس خيارها ووصل منذ زمن، طريقاً غير نافذ، لا تتوفر على “Plan B”، ويبدو أن مسيرة التكيف التي بدأتها مع "مخرجات "الحل الإسرائيلي" لقضيتها الوطنية، لا تتوقف أبداً، في ظل استمرار انهيار سقوف رهاناتها وتوقعاتها وأهدافها، فيما حماس وسلطة الأمر الواقع القائمة في غزة، لم يعد طموحها يتخطى العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل "سيف القدس"، في ظل "توازنات" لا تسمح بالتفاؤل بتحقيق ما أكثر من ذلكأما العرب، أو ما تبقى من المعنيين منهم بالمسألة الفلسطينية، الذين ستلتئم قمتهم الثلاثية اليوم في القاهرة، يعانون كما السلطة، نقصاً في الخيارات والبدائل، ومن "تواضع" في قدرتهم على إعادة جدولة الأولويات الأمريكية، أو استحداث تغيير ذي مغزى، في السياسات والأولويات الإسرائيلية ... وأغلب الظن، أن نتائج حراكهم الدبلوماسي و"مساعيهم الحميدة"، برغم المصالح المؤكدة لهذه الأطراف، في تجسيد "حل الدولتين"، لن تتخطى المناشدات والتحذيرات التي لن تجد آذاناً صاغية لا في تل أبيب ولا في واشنطن.
خلال الأيام القليلة الفائتة، اتخذت حكومة بينت – لبيد – غانتس، سلسلة من الخطوات على جبهتي الضفة والقطاع: لم شمل 5000 أسرة فلسطينية، "قرض حسن" بقيمة 150 مليون دولار تقريباً، تراخيص بناء ألف وحدة سكنية في منطقة (ج) يقابلها 2500 وحدة استيطانية في الضفة، زيادة عدد عمال الضفة في إسرائيل، السماح لـ 7000 تاجر غزاوي بالدخول إلى إسرائيل، فتح معبر كرم أبو سالم، وزيادة مساحة الصيد البحري لأهل القطاع ... ثمة احتفالية فلسطينية بهذه "المكتسبات"... في رام الله يجري تصويرها على أنها ثمار كبرى لسياسات السلطة الواقعية وحكمة رئيسها وحنكتها، وفي غزة، يجري إدراجها في سياق "قواعد الاشتباك الجديدة"، مع أن جميع هذه "المكتسبات" وأضعاف أضعافها، كانت بيد الفلسطينيين، وتحت تصرفهم في أزمنة قريبة وبعيدة.
لكن المسكوت عنه في إجراءات إسرائيل "التخفيفية"، أنها لا تأتي في سياق "رزمة شاملة" تلحظ حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، بل والأخطر أنها من منظور إسرائيلي، تشكل هذا الحل (النهائي)، وليست توطئة له...وفي ظني أن كثرة من قيادات السلطتين في رام الله وغزة، يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، ويتواطؤون معها، طالما أنها تكفي، ولو مؤقتاً على الأقل، لإدامة سلطتيهم.
أخطر ما تستبطنه المقاربة الجديدة، أنها تجعل المؤقت دائماً، وأنها تعفي إسرائيل من مسؤوليتها في وقف الاستيطان وتفكيكه وإنهاء الاحتلال، وترفع عن كاهل المجتمع الدولية عبء السعي لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة والعودة إلى وطنه، طالما أن ممثلي هذا الشعب، منخرطون في لعبة "تقطيع الوقت"، ويغرِفون من سلة "السلام الاقتصادي"، مطمئنين إلى ضائقة الفلسطينيين و"جائحتهم" الاقتصادية والمعيشية، ولا يجدون ضرراً أو ضراراً في تأبيد "التهدئة" بما هي شرط لإدامة الانقسام وتأمين سلطة الأمر الواقع في غزة.