عن الورقة النقاشية السادسة

الدار البيضاء اليوم  -

عن الورقة النقاشية السادسة

بقلم : عريب الرنتاوي

حظيت “الدولة المدنية” بالاهتمام الأكبر في المناقشات التي “اندلعت” على شبكات التواصل الاجتماعي إثر صدور الورقة النقاشية الملكية السادسة، مع أن الورقة أفردت المساحة الأكبر منها، للحديث عن مفهوم “سيادة القانون” ... صحيح أن الأمرين مترابطان ومتداخلان أتم الترابط والتداخل، لكن مفهوم “الدولة المدنية” هو الذي استأثر بالاهتمام الأوسع والأكبر.
ويعود السبب في ذلك في ظني، إلى أن توقيت نشر الورقة، جاء متزامناً مع اندلاع جدل وطني على هامش الانتخابات النيابية العامة، حول هوية “الدولة الأردنية”، دينية، أمنية عسكرية، علمانية، مدنية، مدنية ديمقراطية إلى غير ما هنالك من مصطلحات ومفاهيم رافقت الجدل وصاحبته، دون توقف حتى بعد نشر الورقة السادسة ... وتلكم في ظني، ظاهرة صحية، لم يعتد المجتمع الأردني على الانخراط في مثيلٍ لها، كما هو حال عدد من دول المنطقة ومجتمعاتها.
والحقيقة أن من يقرأ الورقة بإمعان، يلحظ “الدقة” و”الحذر” التي صيغت فيها كل كلمة من كلماتها، خاصة تلك التي أدرجت تحت عنوان “سيادة القانون عماد الدولة المدنية” ... الورقة فضلت الذهاب إلى توصيف الدولة المدنية وشرح عناصرها ومكوناتها، بدل إطلاق التسميات والتعميمات التي قد تستفز قطاعاً من المواطنين دون جدوى أو نتيجة، وهذا أمر طبيعي بالنظر لصدورها عن رأس الدولة الأردنية.
في توصيف الدولة المدنية، قيل بإيجاز أنها “ليست مرادفاً للدولة العلمانية”، ولم تقل الورقة أنها “نقيض الدولة العلمانية”، وفي موضع من مواضع الورقة، قيل إن “الدين في الدولة المدنية عامل أساس في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية”... هنا نستحضر تجربة “العلمانية المتصالحة مع الأديان”، ومعظم تجارب الدولة العلمانية بالمناسبة، متصالحة مع الأديان، ولا تخاصمها، من الولايات المتحدة، حيث تلعب الكنيسة بقيمها الروحية والأخلاقية دوراً مهماً، إلى ألمانيا العلمانية، التي يحكمها حزب ديمقراطي مسيحي، علماني بدوره، إلى الكنيسة البريطانية وموقعها إلى جانب الملكة في النظام السياسي/ الأخلاقي/ القيمي البريطاني ... إذ باستثناء “العلمانية الأتاتوركية المتوحشة” و”اللائيكية الفرنسية الإقصائية” يندر أن تجد تجربة في العلمانية متصارعة مع الدين، وترفض دوره في نشر وتعميم القيم المجتمعية والمنظومات الأخلاقية.
في موضع آخر من الورقة، وتحت العنوان ذاته، جاء ذكر الدين للمرة الثانية في علاقته مع الدولة المدنية التي تدافع الورقة عنها، وتوصّفها بالتفصيل، وتشرح عناصرها ومكوناتها ... هنا قيل: “أن الدولة المدنية هي دولة القانون، التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية” ... وقد فتحت هذه الجملة الباب أمام المتحفظين على مفهوم الدولة المدينة والرافضين جملة وتفصيلاً لمفهوم الدولة العلمانية، للقول بان الورقة انتصرت لوجهة نظهرهم، وأن الدولة المدنية لا تتعارض مع تطبيق أحكام الشريعة، وستظل مدنية حتى وهي تفعل ذلك، طالما أن ليس في الإسلام “إكليروس”، وأن الحكم في الإسلام للمدنيين، حتى وإن صدرت أحكامهم عن مرجعية شرعية.
هنا، يُفتح الباب من جديد على مزيد من الحوار والنقاش، من أجل تحديد موقع “الدين” و”الشريعة” في الدولة المدنية، وما العلاقة بين هذين الفضاءين ... الورقة هنا تستثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات ... بيد أنها تساعدنا على الدخول في هذا الحوار، تحت مظلة وسقف مرتفعين، وعلى نطاق واسع، بعد أن ظل الجدل حول هذه العناوين، نخبوياً، ويستدعي “التكفير” ويحتمل “الاستتابة” كما حصل للدكتور عبد الله النسور الذي جوبه بعاصفة من الانتقادات و”الاستتابات” لمجرد قوله في مؤتمر “نحو استراتيجية وطنية شاملة لمحاربة التطرف” نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في شباط/ فبراير العام 2015، “أن الأردن دولة مدنية، تستكمل خيارها الديمقراطي”، ففُتحت في وجهه جبهة نيابية واسعة، استعارت مفرداتها، من خطاب “السلفية” ومدارسها المتشددة.
علماء الفقه والاجتهاد، يقترحون أن “الثوابت الدينية والشرعية” لا تتخطى الخمسة بالمئة من إجمالي “التراث الديني” الذي يجري إضفاء الكثير من القداسة على نصوصه القديمة والجديدة ... ومعظمها في الجانب الاعتقادي، المتروك لتنظيم علاقة الفرد بخالقه، والمفتوح على التعددية واحترام الآخر في الدين والعقيدة والفكر، والقبول به كما هو، وليس كما نريده أن يكون ... الورقة النقاشية، شددت على احترام التعددية الفكرية والدينية، واستتباعاً، حرية الاعتقاد والضمير، دون أن تذهب أبعد من ذلك في التفاصيل، غير المطلوبة منها على أية حال، أقله في هذا المرحلة.
نقطة أخرى، تستثيرها الورقة التي أسهبت في رفض التمييز بين الأردنيين وتجريم الافتئات والتطاول على حقوق أفراد وجماعات، لأسباب تتعلق بانتماءاتهم الدينية والفكرية، وهي بهذا المعنى، انطوت على مرافعة تفصيلية حول “القانون السيّد” ... وقد جاء فيها أن الحقوق والواجبات تحُدد “دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري”، وهو نص مزيد ومنقح عن النص الدستوري، بيد أنه توقف عن الخط الأحمر ذاته، الذي توقفت عنده اللجنة الملكية التي كلفت بإجراء تعديلات واسعة على الدستور في العام 2011، ولم تتطرق إلى تجريم التمييز على أساس النوع الاجتماعي (الجندر أو الجنس)، الأمر الذي طالبت به الحركة النسائية الأردنية، دون جدوى حتى الآن، على الرغم من التقدم المطّرد الذي أحرزته في المرأة الأردنية في ميادين شتى.
الخلاصة الأولى: أن الورقة نجحت في استنهاض النقاش العام والحوار الوطني، حول مواضيع بالغة الأهمية و”الحساسية”، ومن أرفع منصة في البلاد، وهو أمر محمود، ويجب أن يستكمل بحوار مجتمعي، يتخطى الكتابات البروتوكولية التي لا تفعل شيئاً سوى إعادة انتاج ما هو متضمن في الورقة ذاتها ... المطلوب أن تستثير “الأسئلة” التي استبطنتها الورقة، أو تلك التي لم تأت على ذكرها، جدلاً في العمق، بعيداً عن المواقف “القبْلية” والانطباعات السطحية الساذجة والفارغة من أي مضمون معرفي.
والخلاصة الثانية، أن الورقة السادسة، ترتب أجندة عمل على الدولة بمؤسساتها المختلفة والمجتمع عبر أدواته وأطره الحزبية والمدنية والاجتماعية ... فلن يعود مقبولاً بعد الآن أن نستمع من أي موظف عبارة “سيبك من القانون وخلينا بشغلتك”، ولا أن يجوز أن يهددنا أي مسؤول بعد اليوم بعبارة من نوع: “سنضطر لتفعيل القانون”، فالقانون وضع ليكون سيداً وليكون مفعلاً، في جميع الأوقات وعلى جميع الناس ... وللدولة قانون واحد، لا يجوز معه، استمرار العمل بقوانين “العدالة الموازية” و”العدالة غير الرسمية”، وأقصد هنا القوانين المستمدة من مرحلة “ما قبل الدولة” و”ما قبل المؤسسات” و”ما قبل سيادة القانون”، فهل ستحزم الدولة أمرها وتنفذ القانون الواحد السيد على الجميع، أم أننا سنرجع عند أول حادث مروري، إلى الجاهة والعطوة والجلوة والدية وغير ما هنالك؟
من وجهة نظر كاتب هذه السطور، ومن موقعه كمواطن بلا مسؤولية رسمية، تتخطى مسؤوليات المواطنة العادية، الدولة المدنية – الديمقراطية، وأشدد على الديمقراطية، إذ لا يكفي أن نتحدث عن “مدنية الدولة  دون دمقطرتها”، هي في مضمونها، هي دولة علمانية، متصالحة مع الأديان وليست خصماً لها، وهي نقيض “الدولة الدينية” مثلما هي نقيض “الدولة العسكرية المدنية”، وهي متجاوزة للأطر والعلاقات السابقة للدولة، من حمائلية وعشائرية، ومتحررة من قوانينها المعتمدة على أعراف، لم يعد المجتمع المعاصر، بقادر على تحمل أعبائها وتبعاتها ... والباب مفتوح للنقاش، وحتى إشعار آخر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الورقة النقاشية السادسة عن الورقة النقاشية السادسة



GMT 07:14 2021 الجمعة ,24 كانون الأول / ديسمبر

"العالم المتحضر" إذ يشتري البضاعة القديمة ذاتها

GMT 06:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

"فتح" و"حماس" ولبنان بينهما

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:18 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 05:07 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

خلطات سهلة من بودرة القرفة والألوفيرا لشعر صحيّ ولامع

GMT 18:13 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

"حق الله على العباد" محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 02:33 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

زاهي حواس يكشف حقائق مُثيرة عن مقبرة "توت عنخ آمون"

GMT 08:52 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

توقيف أحد اللصوص داخل مدرسة التقدم في أغادير

GMT 07:35 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

ريتا أورا تُناهض التحرّش وتثير الجدل بإطلالة مثيرة

GMT 01:09 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مصادر تنفي خبر مقتل الفنان اللبناني فضل شاكر في غارة جوية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca