عن "التهميش" وخريطة الانتشار "الجهادي"

الدار البيضاء اليوم  -

عن التهميش وخريطة الانتشار الجهادي

بقلم - عريب الرنتاوي

يجادل كاتب هذه السطور، بأن السلفية بما هي قراءة "بدوية/صحراوية" للإسلام، نجحت في تمكين مدرستها الأكثر عنفاً وتطرفاً، السلفية الجهادية، بمسمياتها المختلفة، من تحقيق اختراقات نوعية في المناطق الطرفية والقبلية ... ومن يتتبع خريطة الانتشار العالمي للقاعدة وما انشق عنها أو انبثق منها من تنظيمات و"تفريخات"، لن يجد صعوبة في إدراك هذا المعنى ... فهي استحوذت على تأييد ومناصرة القبائل الباكستانية والأفغانية، خصوصاً في المناطق الحدودية، وهي ضربت جذوراً عميقة بين القبائل اليمنية، وتستحوذ على ملاذات آمنة بين "بدو سيناء"، وفي مناطق القبائل بين الجزائر ومالي، وعلى الحدود التونسية الجزائرية في منطقة جبل الشعانبي، وفي جرود عرسال وعكار والضنية في شمال لبنان، وفي أوساط قبلية عربية سنية في سوريا والعراق.

هنا، لا يكفي التوقف عند تشابه "أنماط الحياة" بين أبناء هذه المدرسة والبيئة القبلية الحاضنة لها فحسب، بل وتجدر الإشارة إلى توجه قصدي من قبل قادة هذه المدرسة وشيوخها، للاندماج بالبيئة القبلية، سعياً في طلب الحماية والالتجاء إلى شبكات "الحماية" و"الأمن الاجتماعي" التي عادة ما تتوفر في هذه البيئات، وتنعدم في البيئة المدينية المعاصرة.

على أن هذه الحقيقة، النابعة من المشاهدة أولاً، والمستندة إلى تشخيص البيئة الثقافية – الاجتماعية، لجغرافيا الانتشار "الجهادي" ثانياً، لا يعني بالطبع، أن حدود انتشار السلفية – الجهادية، تتوقف عند هذا الحد ... فالسنوات العشر، وربما العشرين الفائتة، شهدت نجاحات نوعية كبرى، سجلتها هذه المدرسة، في الاستحواذ على دعم وتأييد المواطنين في المناطق المهمشة على أطراف المدن الكبرى وحوافها، ولقد كتبت مبكراً عن "جغرافيا الثورة السورية"، وكيف بدأت مظاهر الاحتجاج تتجه "نحو العسكرة" في أطراف دمشق وحمص وحلب وحماة وإدلب وأريافها، والأمر ذاته، ينطبق على النجاحات التي سجلتها السلفية بعامة، والجهادية بخاص، في مدن الصفيح، والعشوائيات والمناطق المفقرة والمعدمة، في معظم المدن العربية، حيث وفّر الإحساس بالظلم وانعدام العدالة الاجتماعية، إلى شيوع مظاهر متلازمة: تنامي معدلات الجريمة وانتشار المخدرات والدعارة، وتفشي التطرف المفضي للإرهاب.

وتوفر قصة مدينة حلب على سبيل المثال، لا الحصر، شهادة حيّة على ما يمكن قوله ... فالمدينة الثرية باقتصادها و"برجوازيتها" الصناعية والتجارية، وحياتها الفنيّة والثقافية والاجتماعية الغنية، كانت موضع "غيرة" و"حسد" من قبل الأرياف المحيطة بها، والتي ما أن همّ أبناؤها وبناتها، بالنزوح إليها، أملاً في الحصول على فرصة لعيش كريم، حتى وجدوا أنفسهم، مكدسين في أحياء فقيرة، تنتظمهم دورة حياة اقتصادية – اجتماعية وثقافية، مستقلة نسبياً على دورة الحياة التي تنتظم أشقاءهم المحظوظين في الشطر الغربي منها، وبقية القصة معروفة.

ومن يرجع لأرشيف "روزا اليوسف" على سبيل المثال، ويقرأ التحقيقات حول حقبة الإرهاب التي ضربت مصر في ثمانينات القرن الفائت وتسعيناته، يجد أن القصة في حواري القاهرة وأزقتها الضيقة، لا تختلف كثيراً عن قصة حلب الشرقية والغربية، وأن الفكر الظلامي التكفيري، المفضي للعنف والإرهاب، كان يتغذى بدوره من بيئة الانقسام الطبقي الحاد، والإقصاء الاجتماعي والتهميش السياسي والاقتصادي.

مرة أخرى، لا يعني ذلك، أن ظاهرة التطرف والغلو والإرهاب، لن تجد في صفوف أبناء وبنات الطبقة الوسطى، وحتى البرجوازية أحياناً، من يؤازرها، ويلتحق بها في مواقع قيادية مهمة، فمثل هذا الأمر، حصل ويحصل، ولقد رأينا العشرات من "المهنيين" و"المتمولين" ينخرطون لأسباب ودوافع شتى في هذا المستنقع، على أننا هنا نتحدث على نحو خاص، عن "التيار الرئيس" المكوّن لهذه الظاهرة، والذي يشكل وقودها الأساسي.

وإذ تقترح "دراسات التطرف والإرهاب" التي انتجتها العديد من المؤسسات والمراكز في المنطقة والعالم، جملة من الأسباب التي تتظافر لتشكيل هذه الظاهرة، ومن بينها الفقر والبطالة وسوء الحالة الاقتصادية وانسداد أفق المشاركة السياسية، فضلاً عن الجوانب الفقهية والعقدية، إلا أننا نعتقد أن كلمة السر، أو الكلمة المفتاح، لتفسير الظاهرة، هي: "التهميش"، وما يتولد عنه من إحساس عميق بالمظلومية، وانسداد الأفق أمام البدائل والخيارات الأخرى، فالفقر وحده لن يكون سبباً كافياً لشرح الظاهرة، إلا إذا اقتنع "الفقير" بأن هناك من أبناء جلدته أو من غيرهم، من هو مسؤول عن "فقره المستدام"، وأنه يعيش حالة الفقر والتهميش، لأن غيره يغتني بها، ويتعزز دوره ومكانته بإدامتها وتكريسها.

و"التهميش" واستتباعاً "الهامشية"، هما المحرك الرئيس والدافع الأساس، لالتحاق ألوف الشبان المسلمين في الغرب، بالإرهاب ... هنا تصبح "أزمة الهوية" وفشل سياسات "الادماج"، سبباً قوياً للبحث عن "ساحة" لتحقيق الذات، والثأر من كل الخيبات، الشخصية/ الفردية والعامة/ الجمعية ... وما ان يهبط الفكر الظلامي/ التكفيري، على شبان وشابات نشأوا وترعرعوا في بيئة من هذا النوع، حتى يتحول إلى قوة مادية كبرى، كفيله بتشغيل عجلات التدمير والتخريب والقتل الأهوج المنفلت من كل حساب وعقال.

لسنا وحدنا على هذا الصعيد، فالأردن جزء من الخريطة الكونية للانتشار السلفي/ الجهادي، ومن دون أن نتجاوز "حالة الإنكار"، في تعاطينا مع هذه الظاهرة واتجاهات تطورها في السنوات العشرين أو الثلاثين الفائتة، والإقرار بمسؤوليتنا عن التراخي في مواجهتها، بل وميلنا في أحيان كثيرة، لتوظيفها والاستثمار فيها، لتحقيق أهداف عرضية طارئة وضيقة، فإنه سيصعب عليها، استنباط الاستراتيجية الكفيلة بمواجهة الظاهرة واستئصالها ... السلفية، الجهادية بخاصة، نجحت في احتلال موطئ قدم في بيئتنا الطرفية، وعند حواف المدن، وأحياناً في قلبها، ومن دون أن نعمل على تجفيف التربة التي أنبتتها، لن نفلح لا في محاربة التطرف ولا في استئصال شأفة الإرهاب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن التهميش وخريطة الانتشار الجهادي عن التهميش وخريطة الانتشار الجهادي



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 05:07 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

خلطات سهلة من بودرة القرفة والألوفيرا لشعر صحيّ ولامع

GMT 18:13 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

"حق الله على العباد" محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 02:33 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

زاهي حواس يكشف حقائق مُثيرة عن مقبرة "توت عنخ آمون"

GMT 08:52 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

توقيف أحد اللصوص داخل مدرسة التقدم في أغادير

GMT 07:35 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

ريتا أورا تُناهض التحرّش وتثير الجدل بإطلالة مثيرة

GMT 01:09 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مصادر تنفي خبر مقتل الفنان اللبناني فضل شاكر في غارة جوية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca