عريب الرنتاوي
دخلت الانتفاضة اللبنانية، اعتباراً من يوم أمس الأول، طوراً جديداً، يتسم هذه المرة بتزايد وتائر النقمة والغضب والعنف ... عمليات الكر والفر، والتعرض للجهاز المصرفي بالحرق والتخريب، و»عنف الأمن» ضد المتظاهرين، جميعها ظواهر غير مسبوقة، رافقها وصاحبها، عودة عشرات ألوف المتظاهرين السلميين إلى الشوارع والميادين، في مختلف بؤر التظاهر التي بدت خالية خلال الأسبوعين الفائتين.
ليس التردي في أحوال الناس المعاشية سوى سبب واحد من أسباب هذا التطور في أشكال التعبير الجماهيري التي بدت سلمية وحضارية للغاية طيلة أشهرها الثلاثة الأولى ... السبب الآخر، الرئيس، يكمن في تفاقم مستوى «اللامبالة» التي أظهرتها الطبقة السياسية والمصرفية على مدى الأشهر الثلاثة الفائتة ... وزاد الأمر تعقيداً، أن تراجع منسوب الاحتشاد الشعبي في شوارع المدن اللبنانية، دفع بهذه الطبقة إلى معاودة يومياتها المعتادة، وكأن شيئاً لم يحصل أبداً ... لقد ظنوا أن الانتفاضة قد ماتت، فعادوا يبشرون بـ»بقاء القديم على قدمه».
لقد تعلم اللبنانيون الدرس غالياً ... هذه الطبقة التي أجهزت على حاضرهم، تتهدد مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وبناتهم ... وكل تنازل قدمته أحزاب السلطة، طوال التسعين يوماً الفائتة، جاء تحت الضغط، ولم يصدر عنها من تلقاء وعيها أو إحساسها بآلام الناس ومعاناتهم، أو بدوافع الغيرة على مستقبل لبنان واللبنانيين.
أما الدرس الثاني، الذي أدركه اللبنانيون، فهو أن هذه الطبقة لن تأبه لمظاهر الاحتجاج السلمي الناعم، والاحتشاد في الشوارع بعيدا عن المؤسسات والمسؤولين والطرق الرئيسة ... أمس غير المتظاهرون تكتيكاتهم، وبدأوا التعرض الخشن لمسؤولين في الأماكن العامة، والاحتشاد أمام بعض المؤسسات الرسمية، التي أطلقوا عليها وصف «أوكار الفساد»... أمس تحول شارع الحمرا الشهير في قلب بيروت، إلى ساحة معركة حقيقة، وكذا بعض الساحات والميادين الأخرى.
ما من مسؤول حزبي لبناني إلا وادعى العفة ونظافة الكف واللسان، وما من أحد منهم إلا وقدم نفسه بوصفه «الأب الروحي» للثورة والثوار ... حتى أولئك الذين نعرف نحن غير اللبنانيين عن فسادهم قصصاً وحكايات، «بروزا في ثياب الواعظين»... حتى أن أحدهم بالأمس، تبجح مهدداً ومتوعداً: حذار من الانقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة، لكأن خروج مليون ونصف المليون لبناني في ثورة السابع عشر من أكتوبر، لم يشكل بحد ذاته، دليلاً دامغاً على «انتهاء صلاحية» تلك الانتخابات والطبقة التي جاءت بها.
ثم يخرج عليك من يقول: أنه تفهم الثورة في بواكيرها، وشعر أنه واحد من الثائرين أنفسهم، لكن انحرافها عن أهدافها، وتبدل وسائلها وأدواتها، جعله «ينقز» منها ويخشى منها وعليها ... أي بؤس هذا الذي لم يدفع بهذا المسؤول للتساؤل عن السبب الذي يخرج اللبنانيين عن أطوارهم، وأنه شخصياً من ضمن جوقة، جعلت اللبنانيين يرفعون أصواتهم وقبضاتهم هذه المرة، في وجه لصوص المال العام، المندمجين عضوياً بالطبقة السياسية من أبناء وأحفاد «الاقطاع السياسي» المتجذر في لبنان.
لم يتركوا للبنانيين من خيار سوى إشهار صدروهم العارية في وجه الرصاص المطاطي والقنابل المسيّلة للدموع ... لم يتركوا للبنانيين سوى مغادرة «مربع الفرح» الذي ميّز ثورتهم في أسابيعها الأولى، إلى مربع العنف» الذي دخلت به شهرها الرابع ... وإن كان من مسؤول عن هذه المآلات الصعبة التي قد ينتهي إليه لبنان، فهم أنفسهم المسؤولون الذين جلبوا الخراب والويلات للبنان على امتداد تاريخه المعاصر: أمراء الطوائف والمذاهب والميليشيات والحرب المتدثرين بالياقات البيضاء وربطات العنق الفاخرة، وأحدث ما أنتجته بيوت الأزياء العالمية.