جدل «الهويات» و«الأحزاب الوطنية الخالصة»

الدار البيضاء اليوم  -

جدل «الهويات» و«الأحزاب الوطنية الخالصة»

بقلم : عريب الرنتاوي

يدعو الدكتور رحيل غرايبة بكل “اليقين والحسم” إلى الإيمان بضرورة إيجاد “أحزاب وطنية خالصة”، تعتمد برامج سياسية عملية، ويكون الاختلاف والتنافس بينها قائماً على اختلاف البرنامج وتنافسها لحل مشاكل مجتمعاتها وأوطانها ... وهو وصل إلى هذه النتيجة، في سياق حديثه عمّا يجب أن يترتب على طرح شعار “الدولة المدنية” ... ليخلص في النتيجةإلى دعوة أخرى مؤدّاها: “التخلي مطلقاً عن الشعارات الدينية والقومية والثورية” وكل ما يثير الانقسام بين مكونات الأمة الواحدة، والتعصب بكل أشكاله وألوانه.

حسناً، تعيدنا أطروحة الدكتور غرايبة، إلى نظرية لطالما جادلنا بصوابيتها، وتقول: إن الحزب السياسي في بنيته الفكرية والتنظيمية والبرامجية ربما يكون “صورة مجسدة” للنظام السياسي الذي يطمح بتأسيسه، وللدولة التي يتطلع لإعادة صياغة منظومة العلاقات بين مكوناتها وسلطاتها المختلفة، فلا يمكن لحزب “الرجل الواحد” أن يؤسس لنظام ديمقراطي، ولا يمكن لأحزاب “العقائد” المغلقة والإقصائية - الشوفينية، إلا ان تشكل نظماً شمولية من النوع الذي عرفته منطقتنا العربية والعالم في مراحل تاريخية سابقة.

بهذا المعنى، يصبح الاستنتاج الذي توصل إليه زميلنا العزيز، منطقياً ومؤسساً على قاعدة “المقدمات تقود إلى النتائج”، فلا يمكن لحزب ديني استعلائي إقصائي، ينطق بالحقيقة بالمطلقة ويستند إلى مرجعية سماوية – ربانية، أن يكون ديمقراطياً ... ولا يمكن لحزب قومي شوفيني - فاشي، أن يكون ديمقراطياً، ولا يمكن لحزب “ديكتاتورية البروليتارية” و”الثورات قاطرات تجر التاريخ”، أن يكون ديمقراطياً، حتى وإن أسبغت هذه الأحزاب على نفسها أسماء وعناوين، مفرطة في ديمقراطيتها وانفتاحها.

لكننا مع ذلك، نجد صعوبة في مجاراة الدكتور الغرابية في خلاصاته واستنتاجاته ... فما الذي يعنيه مثلاُ بدعوته لقيام “أحزاب وطنية خالصة”؟ ... وهل ثمة معايير أو فحص “دي أن إيه” يمكن أن تخضع لها وله الأحزاب السياسية، لتحصل على شهادة “الأيزو” في “الوطنية الخالصة”؟

ثم، ما هي “الوطنية” الخالصة التي يجري الحديث عنها، ومم تتشكل أو على ماذا تتأسس الهوية “الوطنية” بالأساس، لتصبح خالصة، ومعياراً لجودة الحزب السياسي الذي نريد؟ ... أليست الهوية “الوطنية” هي ثمرة تفاعل جملة من الهويات المتراكبة، ألسنا أردنيين وعرباً ومسلمين ومسيحيين وبشر في نهاية المطاف ... وإذا كانت “ الوطنية الأردنية” هي عنوان هذه الهوية واسمها، أفلا يحق لبعضنا أن يعظم من شأن هويته القومية – العربية، وأن يبرز ذلك في طروحات حزبه السياسي وبرنامجه (أذكر بأننا ما زلنا نحتفل بمئوية الثورة العربية الكبرى ... أليس من حقنا بعضنا الآخر، أن يسعى في تظهير هويته الدينية، التي هي جزء مؤسس في هويته الوطنية، وأن يعكس ذلك على فكر حزبه وبرنامجه واولوياته (لا حاجة للتذكير بالشرعية الدينية والنسب الهاشمي للقيادة الأردنية)؟

“الوطنية الخالصة” المتخففة من مركباتها وطبقاتها المكونة، ليست موجودة إلا في قصائد الشعر وأحلامنا الوردية ... والتشديد على كونها “خالصة” يعني أننا قد نذهب إلى “انعزالية” مقيتة، وقد تفضي إلى نزوع شوفيني أضيق نطاقاً ... ولقد شهدت دولٌ ومجتمعات عربية مجاورة، كيف انطلقت بعض القوى والتيارات من “الوطنية الخالصة” لتنتهي إلى “انعزالية مارونية” و”فينيقية” أو “انعزالية” مصرية تعيدها إلى جذرها الفرعوني، وتستكثر على “أرض الكنانة” الهوية المستمدة من العرب “الغزاة”.

“دمقرطة” الهويات بدل إلغائها، هو الحل الأمثل في مرحلة انبثاق الهويات الفرعية، لا على المستوى الوطني بل والإقليمي والدولي ... فالهوية المسيحية لحزب أنجيلا ميركل المسيحي، لم تجعل منه حزباً فاشياً أو إقصائياً، حتى أن هذا الحزب وزعيمته، كان أول من فتح ذراعيه للاجئين من أقوام وألوان وأديان أخرى، وبأعداد فاقت قدرة ألمانياً على الاحتمال ... و”القومية الديمقراطية” أو “العروبة الديمقراطية” هي أكثر ما نحتاج لتصفية ذيول مرحلة القوميات الفاشية المدمرة التي شهدتها بعض الدول والمراكز العربية، وهي رابطة يجب أن تستحضر في مواجهة رياح الهيمنة التي تهب على العالم العربي من جواره الإقليمي، من تركياً وإيران، وبالأساس إسرائيل ... ومواجهة فشل النماذج القومية الشمولية، لا يكون بتقطيع الرابط القومي لشعوبنا وأقطارنا، بل بإعادة صياغة هذا المفهوم و”دمقرطته” و”أنسنته”.

إلغاء “الهويات” أو أي من طبقاتها ومركباتها، ليس خياراً أبدا، ببساطة لأنه غير ممكن وغير واقعي ... إعطاء اتراك بلغاريا أسماء مسيحية، دفعهم للاستمساك بهويتهم الدينية الأصلية ... ومحاولات طمس هوية الشعب الفلسطيني وإلغائها وتفتيتها، ظهر خطلها وبؤسها ... وتوزيع الأمة الكردية على أربع دول، لم ينف وجود الرابط القومي الكردي الذي نهض من تحت الرماد بعد مائة عام من الإلغاء والتقسيم والتفتيت ... وقيام “أحزاب إسلامية” بإعطاء نفسها أسماء كالنهضة والعدالة والتنمية، لم يغير في هويتها ومرجعيتها ... ومسيحية الحزب الحاكم في ألمانيا، لم تضعف علمانية الدولة ولا الحزب على حد سواء .

والهوية الوطنية من قبل ومن بعد، كالنهر الجاري، الذي يتغذى بروافده، فإن جفت الروافد جف النهر وتوقف عن التدفق والجريان، والمؤكد أنها ليست “معطى قًبْلي ثابت أو جامد”، كما يقترح الشوفينيون والإقليميون والإسلاميون، بل هي كائن حي يتوقف بقاؤه ونماؤه، على مدى قدرته على التجدد والتمثل والاستيعاب والاعتراف والاحترام المتبادل لمختلف المركبات والمدخلات، وبخلاف ذلك نكون قد أججنا “صراع الهويات” بدل امتصاصه واستيعابه

المفهوم الستاليني للامة، سقط منذ عهد بعيد، والمفهوم “الإسلاموي” للأمة، لم يؤخذ على محمل الجد إلا في أوساط “الإسلام الحركي”... أما “الأمة الديمقراطية” التي تعترف بهويات جميع مكوناتها، وبحقوق جميع أفرادها وكيانتها، الفردية والجماعية، فهي الضمانة لوقف حالة التداعي والاستقطاب و”صراع الهويات” المحتدم في المنطقة، حيث تنتظم العلاقة بين هذه الكيانات والمكونات، في إطار دولة مدنية – ديمقراطية، علمانية بالضرورة ومن دون رياء أو مراوغة، دولة العقد الاجتماعي والمواطنة المتساوية والفاعلة، دولة “القانون السيد” الحاكم للجميع، حكاماً ومحكومين.

ولا أدري بعد هذه المداخلة، ما الذي يمكن أن نستنتجه من الدعوة لقيام “أحزاب وطنية خالصة” أو “نقية”، تنتمي إلى الهوية الوطنية الجمعية والجامعة، وتستبعد مكوناتها؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جدل «الهويات» و«الأحزاب الوطنية الخالصة» جدل «الهويات» و«الأحزاب الوطنية الخالصة»



GMT 07:14 2021 الجمعة ,24 كانون الأول / ديسمبر

"العالم المتحضر" إذ يشتري البضاعة القديمة ذاتها

GMT 06:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

"فتح" و"حماس" ولبنان بينهما

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:13 2021 الأربعاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 06:18 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

أزمة قراءة أم أزمة خيارات؟

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 05:07 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

خلطات سهلة من بودرة القرفة والألوفيرا لشعر صحيّ ولامع

GMT 18:13 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

"حق الله على العباد" محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 02:33 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

زاهي حواس يكشف حقائق مُثيرة عن مقبرة "توت عنخ آمون"

GMT 08:52 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

توقيف أحد اللصوص داخل مدرسة التقدم في أغادير

GMT 07:35 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

ريتا أورا تُناهض التحرّش وتثير الجدل بإطلالة مثيرة

GMT 01:09 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مصادر تنفي خبر مقتل الفنان اللبناني فضل شاكر في غارة جوية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca