تونس غير!

الدار البيضاء اليوم  -

تونس غير

عريب الرنتاوي

مرّ قرار مجلس وزراء الخارجية العرب بتصنيف حزب الله منظمةً إرهابيةً، مرور الكرام على الرأي العام العربي في دوله الاثنتين والعشرين ... غالبية الدول التي أيدت القرار، لم تجد حاجة لاستفتاء أحد أو مراجعة أحد، وكذا الحال مع الدول التي تحفظت ورفضت و”نأت بنفسها” عن القرار ... الرأي العام العربي، مُغيب عن مؤسسات صنع القرار في دوله، إن كانت هناك مؤسسات لصنع القرار أصلاً، وربما توفر قضية حزب الله نموذجاً عن قضايا عديدة، أكثر أو أقل أهمية، تُتخذ القرارات بشأنها دون مشورة أو مشاركة من أحد. 
وحدها تونس شذّت عن قاعدة “الإجماع العربي”، فالرأي العام التونسي انخرط بكليته في الجدل الوطني العام حول القرار، برغم توقيع وزير الداخلية، المتسرع على قرار الوزراء العرب، وأمكن بعد أيام من احتدام النقاش، داخل الائتلاف الحكومي والبرلمان وعلى مختلف المستويات الشعبية والمدنية، بلورة إرادة جمعية، ليخرج رئيس البلاد للتعبير عنها بموقف يعبر عن حالة التوافق الوطني، أو على الأقل عن وجهة واتجاه الغالبية العظمى من التونسيين. 
لست هنا بصدد مناقشة صحة أو عدم صحة الموقف الذي انتهت إليه تونس، لكن لا بأس من البوح، بأنه موقف صحيح، وحزب الله، كما حماس، لا يمكن إدراجهما في قوائم الإرهاب، حتى الأوروبيين لم يفعلوا ذلك، واكتفوا بالتمييز بين جناحين للحزب، واحد عسكري وآخر سياسي، الأول مصنف إرهابياً، فيما الثاني لم يصنف كذلك، بل أن ممثليه ومندوبيه في الحكومة والبرلمان اللبنانيين، يُدْعون إلى عواصم أوروبية، ويلتقي بهم الموفدون والمبعوثون الأوروبيون. 
ما يهمنا هنا هو أن تونس، التي قلنا في وصفها ذات يوم، أنها أول الثورة وأول الدولة، وأن فرادة نموذجها التوافقي السلمي للانتقال نحو الديمقراطية، تعود مرة أخرى، لتعلمنا درساً بليغاً، حول “قوة الرأي العام” ودرجة انخراطه في عملية صنع القرار، وقيمة كل هذا وذاك، في خلق الانسجام الضروري بين إرادة الحكم وإرادة الشعب، فيما الحال في دول عربية عديدة، معظم الدول العربية الأخرى، إن لم نقل جميعها، يسير في اتجاه مغاير، فالقرارات، كبيرها وصغيرها، بما فيها قرارات “الحرب والسلام” تُتخذ في غفلة من الرأي العام، وغالباً بالضد من إرادته. 
الفرق بين الموقفين التونسي والجزائري، المنسجمين بالنتيجة، أن الأول، جاء ثمرة حوارات وطنية ومشاركة شعبية هائلة، فيما الثاني، جاء فوقياً، ومن صنع نخب قيادية، داخل غرف مغلقة ... تونس وفرت لنا فرصة للتعرف على وجهة واتجاهات الرأي العام بحرية ونزاهة ومن دون خوف وابتزاز، فيما سنظل عاجزين عن معرفة كيف تتوزع مواقف واتجاهات المواطنين في جميع الدول الأخرى، المؤيدة منها للقرار والمعارضة له. اللافت حقاً، أن تونس، بتياراتها السياسية والفكرية، قدمت مواقف مغايرة تماماً لمواقف نظيراتها العربيات ... حتى حزب النهضة، ذي الجذور الإخوانية، كان متميزاً على هذا الصعيد، ميّز بين خلاف بين مواقف وممارسات “إشكالية” لحزب الله، يصح فيها الاختلاف و”الأخذ والرد”، وبين وضعه على لائحة الإرهاب السوداء، وهو الذي قاتل إسرائيل ببسالة، وحرر جنوب لبنان من الاحتلال، وأذاق العدوان كؤوس المرارة في العام 2006 ... وليت أن قادة الحركات الإسلامية، حماس والإخوان على وجه الخصوص، يتمعنون في مواقف الشيخ راشد الغنوشي، ويستخلصون منها الدروس المناسبة. 
يقودنا ذلك، للتعليق على أمرٍ آخر، لطالما جرى بحثه في السنوات العشر أو العشرين الفائتة: هل تخدم الديمقراطية مصالح الغرب، واستتباعاً إسرائيل، أم أنها قد تعيد تموضع حكوماتنا وأنظمتنا في غير المكان الذي تشتهيه لها، السفن الغربية، والإسرائيلية على وجه الخصوص. 
تونس تعطي برهاناً إضافياً، على أن شعوبنا ما أن تمتلك حريتها وزمام قرارها، حتى تصطف في المكان الصحيح ... فلا يمكن للرأي العام العربي، أن يشاطر إسرائيل “عرسها” بتصنيف حزب أو حركة مقاومة، كتنظيم إرهابي، ومن قبل أبناء جلدته من عرب ومسلمين ... إسرائيل ذاتها، لم تصدق الأمر، لفرط غرابته واستثنائيته ... وحدها تونس، وقفت لتقول إن أمراً كهذا، يضرب في صميم قناعات التونسيين وعقولهم وضمائرهم، وقد ترجموا ذلك، بحرية ونزاهة، في موجة الجدل التي دارت في البلاد. 
لا يعني ذلك للحظة واحدة، تأكيد “الوهم” بأن حزب الله ما زال يحتفظ بجاذبيته السابقة لدى الرأي العام العربي، وان صورته لم تتأثر بفعل قتاله في سوريا إلى جانب النظام، وفي العراق تحت رايات الحشد الشعبي، أجزم أن تونسيين كثر، لا يؤيدون الحزب فيما ذهب إليه ... لكن مع ذلك، لم يفقد هؤلاء البوصلة، ولم تأخذهم خطابات المذاهب وحروبها وخنادقها، ولم تصرفهم عن رؤية مصادر التهديد التي تتهدد الأمن القومي العربي... ونفتح قوسين هنا لنضيف: إنها فرصة لحزب الله وحلفائه، الذين أمعنوا في هجاء “الربيع العربي” ووصفوه “خريفاً”، علّهم يجرون المراجعات المطلوبة، والكف عن “الاستنسابية” في تسجيل المواقف من ثورات هذا الربيع وانتفاضاته... بل وربما تكون مناسبة أيضاً لمراجعة كثير من مواقف الحزب وممارساته، التي أسهمت في تنفير قطاعات من الرأي العام منه، وجعلتها تنفض من حوله. 
ما حصل في تونس، يستحق أن تُرفع له القبعات احتراماً ... بيد أنه سيضيئ أضواء حمراء كثيرة، في كثير من عواصم القرار الإقليمي والدولي، التي لا شك ستنظر بعين القلق والارتياب، لهذا الفصل في التجربة التونسية ... فهل سيرتفع منسوب التآمر على تونس الشقيقة، وهل سينخفض منسوب الدعم الدولي للتجربة الفتية؟ ... أسئلة وتساؤلات برسم الأيام المقبلة. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تونس غير تونس غير



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 05:00 2018 الأربعاء ,11 تموز / يوليو

أفكار عملية بسيطة لتنسيق حديقة منزلك في صيف 2018

GMT 05:38 2018 الأحد ,17 حزيران / يونيو

"ماتشو بيتشو" مدينة ألانكا لغز وعظمة طاغية

GMT 18:14 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 17:50 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الاختلاف والتميز عنوان ديكور منزل الممثل جون هام

GMT 01:19 2016 السبت ,17 أيلول / سبتمبر

د. باسم هنري يُبشّر بعلاج للإنزلاق الغضروفي

GMT 18:18 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أترك قلبك وعينك مفتوحين على الاحتمالات

GMT 07:12 2018 السبت ,08 أيلول / سبتمبر

جهزي طعامك بنفسك في مطعم " Dinning Club" في لندن
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca