بين «داعش» والنجدة الإمبريالية العرب مهدَّدون بالانقراض!

الدار البيضاء اليوم  -

بين «داعش» والنجدة الإمبريالية العرب مهدَّدون بالانقراض

طلال سلمان


قبل قرن إلا قليلاً، ولتسهيل الحركة على القوات العسكرية الأجنبية المشاركة في الحرب العالمية الأولى على أرضنا العربية، مدّ البريطانيون خطوط السكة الحديدية ما بين القاهرة وبيروت، عبر فلسطين طبعاً،
بالمقابل، مدّ الحلف الألماني ـ التركي خطوط سكته الحديدية ما بين برلين واسطنبول وصولاً إلى دمشق وبيروت عبر حمص. ثم باشر مدّ السكة بين دمشق ومكة المكرَّمة عبر بغداد الذي عُرف بخط الحجاز، وبنيت محطة فخمة للقطار لا تزال قائمة حتى اليوم في دمشق وتحمل اسم «محطة الحجاز».
ولطالما جاءت السيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب، فضلاً عن باشوات مصر، إلى العاصمة اللبنانية عبر فلسطين في ذلك القطار الذي نشّط بالتلاقي العلاقات الثقافية والفنية والاجتماعية بين هذه الأقطار العربية، في تجاوز للدواعي العسكرية التي دفعت إلى إقامته.
أما الخط الثاني الذي يربط سوريا بالحجاز فلم يقدَّر له أن يكتمل، لأن البريطانيين سرعان ما اوقفوه، لأسباب عسكرية فرضتها طبيعة التحالفات والمخاصمات، على طريق القطار الذي توقف عند الأردن. وهكذا قُطعت الطريق على «الشريف فيصل بن الحسين» عند الحدود المبتدعة حديثاً بين سوريا والبادية الأردنية التي جُعلت إمارة للأمير عبد الله، الذي ستصيّره نكبة فلسطين بعد ربع قرن ملكاً.
ولقد استمر الخط الأول رابطاً بين مصر وبلاد الشام حتى حلت بالعرب نكبة فلسطين، فعزل الكيان الإسرائيلي الذي زرع في قلب هذه المنطقة، الأشقاء بعضهم عن البعض الآخر، وما زالوا مقطوعي التواصل إلا بأفضال الطيران، وأقلّ عبر البحر.
صارت بلاد العرب جزراً، بين كل «دولة» منها والأخرى حدود وسدود ومراقبة جوازات وأجهزة تفتيش وجمارك.. مع احتمالات مفتوحة أمام «القطيعة»، بإقفال نقاط العبور، أو التصادم عبرها بالسلاح.
صارت الكيانات السياسية التي أقامها الخارج الاستعماري، معزّزة بكيان العدو الإسرائيلي الفاصل ـ القاطع ـ مانع التواصل، أقوى من روابط الأخوة والمصالح المشتركة ووحدة المصير.
ها هي «الحدود» التي أقامها الاستعمار، بريطانيا وفرنسا، بين «دول» المشرق العربي تتهاوى الآن براً وجواً عبر حرب تبشير المسلمين بطبعة جديدة من الدين الحنيف التي تشنها جحافل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، كما اساطيل الدول الغربية التي جعلت الفضاء العربي ملعباً لطائراتها الحربية، بذريعة مواجهة «داعش» بالقصف الجوي تمهيداً.. للحرب البرية التي سوف تستأصل هذا التنظيم المتوحش، بعد حين!
وهكذا تشترك دول «الاستعمار القديم» مع «الإمبريالية الأميركية» في هدم «الحدود» التي اقامتها ذات يوم، ومرة أخرى من أجل تحصين إسرائيل بحيث تكون الدولة الوحيدة في هذا المشرق العربي.
فالطيران الحربي الأجنبي، بطيّارين أو من دونهم، يزيل الحدود التي أقامها قبل مئة عام إلا قليلاً، بين العرب، لأن مصالحه التي فرضت إقامتها ذات يوم قد انتفت، وباتت هذه الأرض الممتدة بين فلسطين وآبار النفط في الجزيرة والخليج «مشاعاً مفتوحاً» امام طائراته الحربية، تتيح لطياريه الجدد أن يتمرنوا بالذخيرة الحية على أهداف حقيقية من لحم ودم ومن عمران.
كأنما جمعت المصلحة بين «الخصوم» المتلاقين على العرب في ساحة الحرب: «داعش» الذي يزيل الحدود تمهيداً لإقامة «دولة خلافته» التي تمتد لتشمل كل أرض وكل فضاء يرتفع فيه صوت مؤذّن، ودول الاستعمار قديمه والجديد التي باشرت العودة إلى مستعمراتها القديمة بذريعة إنقاذها من «وحوش» الدعوة لأسلمتها من جديد.
إنه «التكامل» الذي يحقق مصالح الأطراف المتحاربة على الأرض العربية: «داعش» لإعادة أسلمة المسلمين فيها (وتطهيرها من الأقليات العرقية والدينية، كما مع الإزيديين ومع الكلدان والآشوريين) والغرب الأميركي لتأبيد سيطرته ـ بالاشتراك مع إسرائيل ـ على هذه الأرض الغنية بالنفط والغاز وثروات معدنية عديدة، فضلاً عن الآثار الفريدة في بابها والتي تمثل المدماك الأول في الحضارة الإنسانية، جنباً إلى جنب مع ما تركه الفراعنة على الضفة الأخرى لهذا الوطن العربي، خلف فلسطين.
بصيغة أخرى، كاريكاتورية إلى حد ما، تتبدى «بلاد الشام» وكأنها قد «توحّدت» من فوق، بالطيران الحربي الغربي الذي يجوب فضاءها ويقصف ما شاء من الأهداف فيها، بينما تتهاوى كياناتها السياسية «تحت»، في ظل عجز أنظمتها المتهالكة بعد دهر الطغيان عن حماية الحدود، التي كان محرماً اجتيازها على الأشقاء في وحدة المصير.
فأما دول النفط في الجزيرة والخليج فهي تحت الحراسة الدائمة، براً وبحراً وجواً. ومع ذلك، فقط نشطت السعودية إلى استكمال بناء حاجز حديدي مكهرب على حدودها الطويلة مع العراق، بعدما أنجزت في السنوات القليلة الماضية بناء حاجز صخري ـ ترابي ـ حديدي مكهرب على طول حدودها مع اليمن، الذي كان سعيداً ذات يوم في التاريخ البعيد والذي يتهدّده التقسيم بالفتنة، أو البعثرة وشطب «دولته» التي توحَّد شطراها بالقوة قبل عشر سنوات أو أكثر قليلاً.
وبالمصادفة وحدها، والمصادفة خير من ميعاد، تقرّر إسرائيل، في هذا الوقت بالذات، وبينما دول المشرق جميعاً على حافة الخيار بين الحروب الأهلية أو حروب الأشقاء، أن تتخطّى الحواجز النفسية والسياسية جميعاً، وتُقدِم بالشراكة مع الأردن على فتح قناة لتوصل بين البحر الأحمر وبين البحر الميت.
والذريعة الأردنية فاضحة: إن هذا البحر الميت والذي لا تصلح مياهه للشرب أو للري، بسبب ملوحتها القياسية، مهدّد بالاختفاء، ولا بد من مده وبأسرع وقت بمياه تبقيه وتحفظه في جغرافيا هذه الأرض، حيث أقيمت على ضفته الأردنية استراحات ملكية وقرى سياحية، بينما ملأت إسرائيل الضفة الثانية بمستعمراتها وبعض المنشآت الحيوية، مطمئنة إلى الأمان الذي تشيعه «اتفاقات وادي عربة»، التي كرست «الصلح» بين الأعداء السابقين، وها هو البحر الميت يحيي الصداقة بينهما ويجعلهما شريكين في الماء (في انتظار الشراكة بالكلأ).
هكذا هي حال المشرق العربي في هذه اللحظة: بينما تهدّد مشاريع الحرب الأهلية «الدولتين» اللتين كانتا عماد هذا المشرق، سوريا والعراق، في وجودهما، وتلوح في الأفق مخططات لتقسيمهما او لتحويلهما إلى كونفيدراليات طوائفية تضرب وحدة الشعب وليس وحدة الدولة فحسب. فإذا ما تم التقسيم بحسب الأصول العرقية أو الانتماءات الطائفية، فسنكون أمام زيادة عدد أصوات دول هذه المنطقة في الأمم المتحدة بشكل ملحوظ، إذ ستقوم دول سنية وأخرى شيعية، ودول كردية وأخرى عربية، وربما أقيمت دويلات للتركمان والسريان والإيزيديين والكلدان والصابئة، ثم للدروز والعلويين والإسماعيليين.
لقد بات الحفاظ على هذه الكيانات السياسية القائمة معجزة في مستوى الأحلام.. وهي الكيانات التي نُظر إليها ذات يوم على انها نتيجة مؤامرة استعمارية لمنع الوحدة أو الاتحاد أو أيّ شكل من اشكال الفدرالية أو الكونفدرالية، بين «دول عربية» يجمعها الماضي من الــتاريخ، بالدين الغالب، والعـــروبة باعتبارها هوية جامعة وحضارية بحيث تحفظ للأقلـــــيات ـ دينية وطائفية وعرقية ـ حقوقها المضمونة بالمواطنة الموحـــدة والديموقراطية حامية حق الرأي، موافقة أو اعتراضاً.
هل من الضروري الإشارة إلى أن أهالي هذه الأرض المقدسة معلقون الآن في فضاء المشاريع الاستعمارية الجديدة، لا يعرفون مصيرهم، وهل سيقدرون على استعادة دولهم بكياناتها التي كانوا يرون أنها أقيمت على حساب حقهم في الطموح إلى وحدة تلم شملهم في دولة قوية، تمكّنهم من بناء مستقبلهم على أرضهم بما يتناسب مع قدراتهم لبناء غدهم الأفضل؟!
لقد اجتمعت على أبناء هذه الأرض قوى لا قبل لهم بمواجهتها: من دكتاتورية أنظمتهم التي عجزت عن حماية دولها، إلى «داعش» التي جاءت بالدعوة إلى الخلافة عبر المذابح الجماعية وإحراق الناس أحياء واغتصاب النساء وتدمير التعليم وإرجاع البلاد قروناً إلى الخلف، فإلى قوى الاستعمار ـ جديده والقديم ـ التي تلبس الآن لبوس محرّري العرب من هويتهم ودينهم.. وأرضهم.
وليست مجازفة أن نعتبر هؤلاء «الأعداء» جميعاً شركاء.
على ان المفجع ان العرب الآخرين، في مغارب الأرض العربية، ليسوا من المنعة والقدرة، بحيث يستطيعون القدوم للنجدة، أو التدخل لحصر الكارثة في أضيق نطاق ممكن.
إنه زمن المحنة القومية الكبرى.
وقديماً أطلق العرب على هزيمتهم أمام المشروع الإسرائيلي المحمي دولياً تسمية «النكبة». ولسنا ندري ما يمكن أن يطلق على حقبة الضياع الدموي الرهيب الذي يعيشه المشرق العربي هذه الأيام، والذي توحي مقدماته بأنه سيكون أفظع وأبشع وأوسع مدى من نكبة فلسطين.
... الا إذا انتبهت الأمة وهبّت للإمساك بمصيرها حتى لا يقرره الآخرون. والآخرون، هنا، هم أعداؤها مهما تباينت التسميات بين «داعش» و «الامبريالية» التي نشهد طلائعها في التدخل الجوي ونترقب نزولها لتأخذ منا الأرض بما عليها وفي باطنها من ثروات، وبمن عليها من الناس الذين لم يحفظوها فانصرفوا إلى البكاء عليها، بينما تُكرَّس إسرائيل التي جمع مشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني اليهود من كل أرض في «دولة»، تكاد تكون الآن «السيدة» في أرض عربية بلا رأس!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

 

 

 

 

 

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين «داعش» والنجدة الإمبريالية العرب مهدَّدون بالانقراض بين «داعش» والنجدة الإمبريالية العرب مهدَّدون بالانقراض



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca