التغيير الشامل للتعليم

الدار البيضاء اليوم  -

التغيير الشامل للتعليم

عبد الرحمن الراشد
بقلم : عبد الرحمن الراشد

راجعت بعض مناقشات مؤتمر ومعرض التعليم الدولي في الرياض، الذي يعكس اهتمام المسؤولين عن هذا القطاع، والبحث عن سبل لتطويره.وأعود للحديث عنه لأنَّ تطوير التعليم يبقى التحدي الحقيقي لأي تقدم، في كل المجالات المدنية والعسكرية، وبوليصة التأمين لمستقبل أي أمة.
نحن أمام إرث قديم وعميق، تراكم عبر السنين وأصبحَ لا يناسب عصر اليوم، ولا يخدم أهداف دولة لديها مشروع طموح مثل رؤية 2030. ولا يزال التعليم بنظامه القديم مشكلة دول المنطقة، التي مهما راكمت من مداخيل سيادية، تعاني من فجوة بينها وبين العالم المتقدم صناعياً.
وسبق أن طرحتُ موضوعَ التفكير خارج الصندوق، وتجربة الانتقال إلى التركيز على تعليم العلوم الدقيقة في الولايات المتحدة، لأنَّه موضوع يستحق مزيداً من النقاش والمحاضرات والمؤتمرات، الحقيقة يستحقُّ البحث في التغيير الكامل. وأعتقد أن مخططي التعليم والمسؤولين عنه أنفسهم، يعلمون اليوم أنَّه لم يعد كافياً تحسين المناهج، وإدخال المعامل ضمن التدريس، وتحديث المباني، وتمويل الجامعات والمعاهد، والاكتفاء بالحلول الجزئية. نحن في حاجة إلى اختصار خمسين سنة للَّحاق بالعالم، والشروع في تخريج أجيال متخصصة في العلوم والتقنية المتقدمة، وإن كان ذلك على حساب مجالات أخرى.
هنا، نتطلع منهم إلى رسم برنامج تعليمي لعشرين سنة يحدث ثورة كبيرة، يتجاوز التعليم التقليدي ومتطلباته. لتحقيق ذلك تحتاج إلى اعتبار العشرين سنة المقبلة «حالة طوارئ» تسمح بالخروج عن الخط التقليدي وتبرر المغامرة.
هل يمكن تكثيف التعليم العلمي في المراحل المبكرة جداً؟ هل يمكن تبكير تأهيل طلاب الثانوية لتخصصاتهم الجامعية، يجعلهم حين يلتحقون بالجامعة مميزين لا يقلون تفوقاً عن زملائهم في أكثر الجامعات تفوقاً؟ فالذي يميز الجامعات المتفوقة أنَّها لا تقبل إلا الطلاب المتفوقين، وليس فقط جودة الأساتذة والمناهج. وهذا يعني التركيز في التعليم العام والتبكير في توجيه الطلاب نحو تخصصات محددة قبل دخول الثانوية، وتصبح الثانويات مراحلَ تهيئهم لتخصصاتهم المحددة العلمية أو الطبية وغيرها. لن يكون هناك طلابٌ متفوقون في كل شيء مع تضخم العلوم وتفرعها. في المملكة العربية السعودية أكثر من ستة ملايين طالب وطالبة في المراحل التعليمية المختلفة في 27 ألفَ مدرسة، وأكثر من أربعين جامعة حكومية وخاصة، يمكن دفعهم نحو التخصص المبكر.
هل يمكن اختصار بقية المناهج الأقل حاجة ورميها من النوافذ؟ هل يمكن تغيير مسارات الجامعات وتخصيصها لتعليم موضوعات محددة؟ هل يمكن إعادة رسم وظائف الجامعات وتخصيصها كلها لعلوم تركز عليها، التقنية والهندسة المتطورة؟ تخصصات علم البيانات، كليات مخصصة لدراسات الذكاء الصناعي، وكلية للعلوم السيبرانية، وأخرى للهندسة التقنية الذاتية (الدرونز والسيارات والروبوتات)؟ وكليات لتقنية الطب، والهندسة الحيوية والجينومية، والهندسة الصناعية، وتقنيات الزراعة. كليات لتقنية الصناعات العسكرية، كليات لعلوم الفضاء، كليات هندسة للاتصالات المتقدمة، وغيرها. جميعها تتطلب تأهيلَ طلاب لها في الثانوية قبل وصولهم إلى المرحلة الجامعية.
لن تكون رحلة الانتقال إلى التركيز والتخصصات سهلةً، بل صعبة ومكلفة، مع ندرة كفاءات المعلمين والإداريين، إنما هذه فترة حجر تعليمي استثنائية تنقل المجتمع إلى مرحلة أخرى.
أخشى أن الاكتفاء بالتشذيب والتهذيب والقبول بالتغيير البطيء لن يكفي لسببين، أن المتوقع من مخرجات سلك التعليم سيظل لزمن طويل لا يفي بتوقعات سوق العمل ومشروع التطوير. والثاني، أنَّ العالم، وليست الدولة فقط، يتقدم بسرعة عالية جداً لا تواكبها هذه الحركة فتزداد المسافة ابتعاداً، وتصبح التكلفة علينا أكثر جهداً ومالاً، عدا عن فوات الفرص. نحن لا نعاني من مشكلة طارئة في التعليم، بل هي حالة مزمنة وليدة خمسة عقود متراكمة تتطلب إدخال التعليم كله في العناية المركزة. كانت هناك مساعٍ للخروج من الوضع المحلي الصعب، مثل عمليات الابتعاث الطويلة، وأرسل فيها مئات الآلاف من الطلاب للدراسة الجامعية، لكنها عجزت عن سد الفجوة وتحقيق القفزة. السبب لأنَّ المبتعثين هم منتج التعليم المحلي الذي يعجز عن المواءمة، وتحقيق النتيجة المتقدمة المرجوة. يضاف إليهم أن الأغلبية التي اكتفت بالتعليم محلياً، لا تحقق المتوقع منها في سوق العمل.
وفوق هذا، يوجد اليوم عاملٌ أكثر تطلباً، «الرؤية» باستراتيجيتها وبرامجها التي ضاعفت توقعاتها ومتطلباتها التنافسية، أكبر بكثير مما تطرحه المؤسسات التعليمية الخاصة والحكومية. التعليم الثانوي والتعليم الجامعي العام لن يخرجا مؤهلين للسوق الجديدة، ولا أعرف إن كانت هناك سبل أخرى غير التخصص المبكر والتعليم المكثف يمكن أن تحقق النتائج المطلوبة، أم لا.
هذا التوجه لن يلغيَ الجودة ولا القدرة على تخريج طلاب مميزين في المجالات الأخرى، إذا تمَّت أيضاً معاملتهم بالاستراتيجية نفسها، التخصص المبكر والتكثيف لجميع ملايين الطلاب والطالبات، وليس لنسبة محدودة منهم. وهذا يشمل، أيضاً، التخصصات غير العلمية، القانونية والسياسية، والاقتصاد، واللغات، والأدب، وعلم النفس، والتاريخ، والإعلام، والفنون، وغيرها. بتقليص عددهم وتبكير تعليمهم، أفترض أنهم سيكونون أفضلَ وأكثرَ تفوقاً ممن سبقهم، حيث كانوا يتخصصون في هذه المجالات بشكل عام من دون تركيز وتعليم مبكر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التغيير الشامل للتعليم التغيير الشامل للتعليم



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 14:23 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عبدالرحيم الوزاني يطالب لقجع بجلب مقر "الكاف" إلى المغرب

GMT 19:03 2019 الجمعة ,22 آذار/ مارس

فيلم «نائب».. عبقرية الكوميديا السوداء

GMT 21:54 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

أفضل زيوت تدليك الجسم و المساج

GMT 09:41 2017 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

عماد متعب ويارا نعوم يكشفان أسرار حياتهما في "كل يوم"

GMT 21:47 2017 الجمعة ,07 إبريل / نيسان

إدارة السجون تكشف وضع على عراس في "تيفلت 2"

GMT 09:56 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أهم وأبرز إهتمامات الصحف الجزائرية الصادرة الأربعاء

GMT 14:26 2017 الإثنين ,12 حزيران / يونيو

التدليك الحل السحري للتخلص من المشكلات الصحية

GMT 02:23 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

كولم كيليهر يؤكد أنّ المملكة السعودية سوق جاذبة للاستثمار

GMT 08:30 2016 الثلاثاء ,27 أيلول / سبتمبر

حملة أمنية على محلات درب عمر بسبب الدمى الجنسية

GMT 00:14 2015 السبت ,28 شباط / فبراير

استخدمي طرقًا بسيطة للحصول على فضيات مميزة

GMT 15:48 2016 السبت ,02 إبريل / نيسان

الزواج المبكر فى مصر يتراوح بين 13-15%
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca