وماذا عن العلمانية؟

الدار البيضاء اليوم  -

وماذا عن العلمانية

عبد العالي حامي الدين

النقاش الدائر حول الدولة المدنية يقودنا إلى النقاش حول مفهوم آخر هو مفهوم العلمانية  هذا المفهوم ظهر في سياق تاريخي وحضاري مختلف عن البيئة الإسلامية، وتعرض لتشوهات كثيرة من طرف أغلب العلمانيين العرب، الذين أرادوا تحويله إلى إيديولوجيا أو عقيدة، وجعلوه مفهوما مقابلا للدين والتدين. والحقيقة أن العلمانية ما هي إلا طريقة في الحكم ترفض ممارسة السلطة على أساس شرعية دينية، كما ترفض احتكار طبقة رجال الدين وهيمنتهم على الشأن الديني والشأن الزمني. العلمانية هي جواب تاريخي كان ضروريا ضد نظام الحكم الثيوقراطي، والثيوقراطية كنظام للحكم تعني حكم طبقة من رجال الدين إما نتيجة ادعائهم امتلاك «حق أو تفويض إلهي»، أو نتيجة زعمهم «حفظ الشريعة الإلهية»، وهنا نكون أمام الدولة الدينية التي يباشر فيها الرهبان إدارة شؤون الدولة بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، أي عن طريق الاعتراض على القرارات والتشريعات التي تتعارض في نظرهم مع الدين، وفي هذا السياق هناك العديد من الأمثلة التاريخية حول التحالف بين السلطة ورجال الدين، ودفاع طبقة رجال الدين عن مصالحهم ومصالح الطبقة السياسية باسم الدين. الآن ومع استقرار العديد من الدول الغربية وترسيخها لمفهوم العلمانية في دساتيرها المكتوبة أو في ممارستها السياسية، فإن هناك نقاشا كبيرا حول مدى الالتزام الحقيقي بفصل الدين عن الدولة، ففي فرنسا، التي تعتبر أسمى تعبير عن علمانية الدولة في أوربا، مازال جدول العطل الرسمية في أغلبه تعبيرا عن الأعياد الكاثوليكية، كما أن الدولة تقدم من أموال دافعي الضرائب تمويلاً للمدارس الدينية؛ أما دستور أستراليا، وهي دولة علمانية، فإنه يبدأ بعبارة: «بتواضع، نعتمد على نعمة الله المتعالي» بالإنجليزية: (Humble reliance on the blessing of Almighty God)، كما أن الحكومة الأسترالية تدعم الصلاة المسيحية في المدارس الحكومية، وتمول المدارس الدينية التي تعد القساوسة الجدد وكذلك رجال الدين. الأمر نفسه يحدث في سويسرا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وإن بدرجات متفاوتة، وهذا موضوع آخر. لنعد إلى التجربة التاريخية للمسلمين، والتي عرفت بدورها انحرافا عن الأصول المؤسسة للمجال السياسي في الإسلام، وانزلاقا إلى توظيف الدين لبناء مشروعيات سياسية محصنة ضد المساءلة والمراقبة، مع العلم بأن قضايا الحكم والسياسة في السياق الإسلامي يجري تداولها بواسطة آليات الشورى والرأي والمصلحة «أنتم أعلم بأمور دنياكم». والقضايا التشريعية التي تعتبر بمثابة قواعد آمرة في الشريعة الإسلامية هي قضايا محدودة، ومنحصرة في بعض التشريعات التي تهم مجال الأسرة والإرث. ولذلك، وعلى عكس العديد من العلمانيين العرب، رفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري استيراد مصطلح العلمانية، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ورأى ضرورة استبداله بفكرة الديمقراطية «حفظ حقوق الأفراد والجماعات»، وبفكرة العقلانية «الممارسة السياسية الرشيدة». فليست هناك حاجة إلى إقصاء الدين من المجال العام في السياق الإسلامي، لأنه لا يمثل مصدر المشروعية بالنسبة إلى الحاكمين، فضلا على أن رأي الجابري وكتاباته كانت تعترف بمكانة الدين في الحياة العامة، لكنها تبحث له عن دور أكثر عقلانية. وفي رأيي الشخصي، إن النموذج الإسلامي في الحكم كان قائما على أساس علماني بمعنى من المعاني، أي بمعنى غياب الكهنوت، أو بعبارة أخرى غياب المؤسسات الدينية الوسيطة، ويمكن القول بأن دور العلماء (رجال الدين) في المجتمع الإسلامي هو دور مختلف عن المجتمعات المسيحية التي سادت فيها هيمنة الكنيسة على الشأن الديني والزمني. إن دور العلماء هو العمل في قلب المجتمع، ولا يمكن أن يفرضوا أنفسهم عليه كسلطة من الفوق. والله أعلم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وماذا عن العلمانية وماذا عن العلمانية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 13:15 2020 السبت ,16 أيار / مايو

بريشة : هارون

GMT 22:06 2018 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

كيفية التعامل مع الضرب والعض عند الطفل؟

GMT 00:54 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم"يكشف تفاصيل أزمة محمد رشاد ومي حلمي كاملة

GMT 20:23 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مسرحية "ولاد البلد" تعرض في جامعة بني سويف

GMT 22:59 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت تزيين الطاولة للمزيد لتلبية رغبات ضيوفك

GMT 16:49 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

العراق يستلم من إيطاليا تمثال "الثور المجنح" بعد ترميمه رسميًا

GMT 08:07 2017 الأربعاء ,16 آب / أغسطس

شبكات التواصل بين السلبي والإيجابي

GMT 02:07 2017 الأربعاء ,10 أيار / مايو

كواليس عودة " عالم سمسم" على الشاشة في رمضان
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca