عبد الباري عطوان
في كل مرة نكتب فيها عن دخول الازمة السورية عاما جديدا، نبحث عن تطورات جديدة في المشهد السوري سياسيا وعسكريا، على امل تقديم زاوية مختلفة للقارىء الذي بات يشعر بحالة الملل من جراء التكرار، ولكن هذه المرة يبدو الوضع مختلفا، او هكذا نعتقد.
لا نتحدث هنا عن النقطة المحورية التي كانت، وربما ستظل، احد ابرز اعمدة هذا المشهد، وهي تلك المتعلقة بمستقبل الرئيس السوري بشار الاسد، وبقائه من عدمه، وانما عن خصومه الذين توقعوا رحيله في الاشهر الاولى، وما اكثرهم في تلك الايام، والجار التركي على وجه الخصوص، الذي لعب الدور الابرز في هذه الازمة على مدى السنوات الخمس الماضية، سواء من خلال نسج التحالفات الاقليمية والدولية للاطاحة بالرئيس السوري، او بتبني المعارضة السورية المسلحة، وتقديم، او بالاحرى، تسهيل مرور المال والسلاح والمتطوعين اليها للتسريع بهذه المهمة.
لم نكن نتصور، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، ان نفتح اعيننا في يوم من الايام على تفجيرات ارهابية في قلب العاصمتين التركيتين، “الرسمية” انقرة، والتجارية “التاريخية” اسطنبول، وتصبح الازمة التركية لا تقل خطورة على نظيرتها السورية، رغم تسليمنا انها ما زالت في بداياتها، واختلاف الظروف بين البلدين.
الهجوم الذي نفذه انتحاري في قلب شارع الاستقلال، اشهر شوارع التسوق في اسطنبول بحزام ناسف يوم (السبت) كان الرابع من نوعه منذ بداية العام، مما يرفع عدد الضحايا الى 80 شخصا، والجرحى الى اكثر من 300 جريح.
وزير الداخلية التركية السيد افكان آلا قال الاحد ان منفذ هذا الهجوم يدعى محمد اوزترك المولود عام 1992 في منطقة غازي عنتاب المحاذية لمدينة حلب في الجانب التركي، وتبين انه عضو في “الدولة الاسلامية”، وهو مطلوب للامن، اي انه ليس كرديا او سوريا.
ما يميز هذا الهجوم عن كل الهجمات السابقة المماثلة، ان ضحاياه هذه المرة ثلاثة قتلى اسرائيليين، وعشرة جرحى آخرين، معظمهم من الاسرائيليين ايضا، الامر الذي اربك حكومة بنيامين نتنياهو ودفعها الى اصدار تحذير قوي للاسرائيليين بعدم زيارة تركيا.
التفجيرات السابقة، خاصة ذلك الذي وقع في منطقة مسجد السلطان احمد السياحية في اسطنبول استهدفت سياحا المان، وقتل عشرة منهم، تطابقت عملية التنفيذ مع نظيرتها الاحدث في شارع الاستقلال، حسب الرواية الرسمية، مما يعني ان الهدف الابرز منها هو ضرب الموسم السياحي التركي، وبث الرعب في قلوب السياح الاجانب، ويبدو ان هذا الهدف تحقق جزئيا، حيث انخفضت الحجوزات السياحية لموسم الصيف المقبل حوالي 40 بالمئة حتى الآن، ومرشحة للارتفاع، مما يعني خسارة الخزينة التركية حوالي 15 مليار دولار على الاقل (الدخل السياحي التركي السنوي حوالي 36 مليار دولار).
المفاجأة في الانفجار الاخير في شارع الاستقلال ان جميع ضحاياه من الاسرائيليين، باستثناء ايراني سيء الحظ، كان في المنطقة بالصدفة، الامر الذي اربك الحكومتين التركية والاسرائيلية معا، وطرح العديد من الاسئلة حول ما اذا كان الهجوم يحمل طابعا سياسيا، مثل محاولة تخريب العلاقات التركية الاسرائيلية التي تتطور بسرعة حاليا نحو التطبيع الكامل، اثر محادثات مكثفة بين مفاوضين دبلوماسيين من الجانبين؟
ربما من المبكر التكهن في هذا الاتجاه، لان المعلومات التي رشحت من الحكومتين الاسرائيلية والتركية ما زالت شحيحة، والتحقيقات في بداياتها، لكن اذا تبين بأن الانتحاري الذي فجر حزامه الناسف في الشارع وسط السياح كان يتعمد قتل اسرائيليين، فان هذا التفجير سيشكل تحولا نوعيا ستترتب عليه معطيات عديدة، لان استهداف السياح الاسرائيليين كاد ان “ينقرض” في ظل اتفاقات اوسلو، وجنوح السلطة الفلسطينية الى التنسيق الامني لحماية الاسرائيليين، مستوطنين كانوا او جنودا، وحرص حركة “حماس″ على حصر عملياتها الفدائية داخل الاراضي المحتلة، واقتصارها على العسكريين فقط.
توجيه وزير الداخلية التركي اصابع الاتهام الى “الدولة الاسلامية” بالوقوف خلف التفجير الاخير لا يبدو مقنعا مثل سابقه الذي استهدف منطقة سلطان احمد، لسبب بسيط وهو ان “الدولة” او “داعش”، مثلما يفضل البعض تسميتها، لم تعلن مسؤوليتها عن اي تفجير في تركيا، وهي التي لا تتردد في تبني هجمات في مناطق اخرى، وبسرعة، مثلما حدث في مدينة بن قردان التونسية قرب الحدود الليبية قبل عشرة ايام.
واذا صحت الاتهامات الرسمية التركية بضلوع “الدولة الاسلامية” خلف هجوم اسطنبول الاخير، فان هذا يعني خرقا لهدنة غير معلنة بين الجانبين، وان علينا، والسلطات التركية قبلنا، ان تتوقع هجمات اكثر خطورة يمكن ان تستهدف المنتجعات السياحية الشهيرة في الجنوب، حيث الغالبية الساحقة من السياح من دول اوروبا الغربية والشمالية، خاصة بريطانية ودول اسكندنافيه، ويقدر تعدادهم في المجموع 36 مليون سائح سنويا.
توقيت الهجوم حرج ومرعب، ويأتي قبل شهر من افتتاح معرض “اكسبو” الذي تستضيفه تركيا في منتجع انطاليا في جنوبها، وتعول عليه كثيرا لتحريك عجلة اقتصادها المتباطيء، ومن المفارقة ان الحكومة التركية وجهت الدعوة الى النجمتين العالميتين جنيفر لوبيز ومادونا، والنجم العالمي جستين بيبر من اجل الترويج للسياحة وهدوء الاحوال في نتجعاتها، مصايفها، ومن غير المستغرب ان يؤدي التفجير الاخير الى تعقيد هذه المهمة.
الحكومة التركية تحارب الآن على ثلاث جبهات رئيسية، ودون ان يكون لديها حلفاء يمكن الاعتماد عليهم:
الاول: حزب العمال الكردستاني المدعوم من موسكو ورئيسها بوتين الخصم اللدود لاردوغان، واتهمته الحكومة التركية بالوقوف خلف انفجاري انقرة الاخيرين اللذين اديا الى مقتل اكثر من ثلاثين شخصا قبل عدة اسابيع.
الثاني: حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي منعت الحكومة التركية مشاركة ممثلية في مفاوضات جنيف لسورية، ويحظى ويا للمفارقة بدعم امريكا وروسيا معا.
الثالث: “الدولة الاسلامية” اذا صحت اتهامات وزير الداخية التركي بأنها تقف خلف التفجيرين في منطقة السلطان احمد وشارع الاستقلال.
الاعداء الثلاثة من الوزن الثقيل، وعلى درجة عالية من الخطورة، وتنبع هذه الخطورة من كون حزب العمال الكردستاني متغلغل في النسيج الاجتماعي والجغرافي التركي، وله خلايا صاحية ونائمة في العاصمتين التركيتين، علاوة على مدن اخرى، اما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ووحدات حماية الشعب ذراعه العسكري فهي قريبة من الحدود التركية السورية، اما اذا انتقلنا الى “الدولة الاسلامية” فان التقارير الاخبارية تفيد بان اكثر من الفين من مقاتليها من الاتراك، وانها تحظى بتعاطف في اوساط بعض الشباب التركي المتدين.
نتحدث الآن وبمناسبة دخول الازمة السورية عامها السادس عن مأزق الرئيس اردوغان وحكومته وبلده وتكاثر الاعداء من حوله.. ترى عن ازمة من سنتحدث في بدء دخول هذه الازمة عامها السابع؟