بقلم : عبد الباري عطوان
واصَلت الحُكومة الإثيوبيّة سِياستها باتّخاذ مواقف تصعيديّةً استفزازيّةً لمِصر حول سد النهضة ومسألة ملء خزّاناته التي هي مَوضِع خلاف بين البلدين لعدم الاتّفاق على كميّة المِياه السنويّة المطلوبة والجدول الزمنيّ، وردّت على المذكّرة المِصريّة إلى مجلس الأمن بأخرى مضادّة ترفض ما ورد فيها وتشرح موقفها، وتُبرِّر سِياساتها هذه مُؤكّدةً على شرعيّة قراراتها السياديّة.
هذا التّصعيد الذي ينطوي على الكثير من الغطرسة والتحدّي انعكس بشكلٍ واضحٍ ومُفاجئٍ في التّصريحات التي أدلى بها أميسيلو تيزارو، نائب المتحدّث باسم وزارة الخارجيّة الإثيوبيّة لوكالة الأنباء الرسميّة، وقال فيها “إنّ بلاده ليست مُلزمةً بإخطار مِصر والسودان مُسبقًا بخطواتها المُتعلّق ببناء السد أو ملء خزّاناته من المياه”، ووصف الرّسالة التي بعثت بها إلى مجلس الأمن بأنّها “بلا قيمة ولن تُحقِّق أيّ نتائج”، وأكّد أنّ السد بُنِي حتّى تَمتلِئ خزّاناته”.
***لم يصدر حتى كتابة هذه السطور أيّ ردٍّ مِصريٍّ رسميٍّ على هذه التّصريحات الإثيوبيّة “الاستفزازيّة” المُتعمّدة، ولكن من الواضح أنّ هُناك حالةً من الغَليان تسود العُلاقات بين الجانبين، والمِصري على وجه الخُصوص، لأنّ الفترة الزمنيّة المُتبقّية لبِدء إثيوبيا بتنفيذ المرحلة الأولى من ملء الخزّانات بحواليّ 18.4 مِليار متر مكعّب من المِياه (السّعة النهائيّة 74 مِليار متر مكعّب) في غُضون عامين ستبدأ بعد ستّة أسابيع، وبالتّحديد في أوّل تمّوز (يوليو) المُقبل، واللّافت أنّ سياسة إثيوبيا في المُماطلة وكسب الوقت التي اتّبعتها طِوال تِسع سنوات من التّفاوض بدأت تُعطِي ثِمارها إلا إذا حدث أمران:الأوّل: أن تتدخّل الولايات المتحدة بفرض الاتّفاق الذي جرى التوصّل إليه برعاية وزير خارجيّتها وبحُضور وزراء خارجيّة وري مِصر وإثيوبيا والسودان ومُمثّل عن صندوق النقد الدولي في شباط (فبراير) الماضي.والثّاني: أن تلجأ مِصر إلى العمل العسكريّ لتدمير السد وهذا آخِر الحُلول، وهُناك مُؤشّرات عديدة تُرجّحه.لُجوء مِصر إلى الحل العسكريّ يتعارض مع بُنود القانون الدولي، ولهذا حَرِص السيّد سامح شكري إلى إرسال مذكّرة رسميّة إلى جميع أعضاء المجلس تشرح الجُهود المِصريّة للوصول إلى حلٍّ سلميٍّ للأزمة بِما في ذلك توقيعها بالأحرف الأولى على مشروع اتّفاق واشنطن الذي رفضته إثيوبيا، وقاطَعت الجلسة الختاميّة التي كانت مُخصّصةً للاحتفال به، وكأنّ الحُكومة المِصريّة أرادت أن تقول “لا تلومونا إذا لجأنا إلى الخِيار العسكريّ فقد طرقنا كُل الأبواب للحل السلميّ، وقَبِلنا كُل الوِساطات، ولم نَصِل إلى أيّ نتيجةٍ”.
الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي ابن المؤسّسة العسكريّة المِصريّة، ويؤكّد دائمًا وفي كُل مُناسبة أنّه يفضّل الحل السلميّ، ولكنّه في الوقتِ نفسه يرفض إملاء سِياسات فرض الأمر الواقع فيما يتعلّق بالنيل ومِياهه، فهذه القضيّة بالنّسبة إلى مِصر قضيّة وجود وحُقوق مشروعة كفَلتها مُعاهداتٌ دوليّة.مِصر أنفقت مِليارات الدّولارات في الأعوام الخمس الماضية على تطوير وتحديث قُدرات جيشها الدفاعيّة والهُجوميّة، وأقدمت على شِراء كميّات هائلة من الأسلحة والعتاد الثّقيل تُؤهِّل هذا الجيش للقِيام بعمليّات عسكريّة خارج حُدودها مِثل الغوّاصات من ألمانيا، وحامِلات الجُنود البحريّة من فرنسا، والسّفن حاملة طائرات عموديّة هُجوميّة، ومنظومات دفاعيّة جويّة مِن روسيا.
التّراجع الكبير والجذري في الموقف السوداني تُجاه أزمة سد النهضة الذي تجلّى في رفض السيّد عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان، عرضًا إثيوبيًّا بتوقيع اتّفاق ثُنائي جُزئي حول السد، وإصراره على اتّفاق كلّي تكون مِصر طرفًا فيه، كان تطوّرًا رئيسيًّا في هذه الأزمة، يَعكِس انقلابًا في الموقف السوداني الذي كان أقرب إلى نظيره الإثيوبي، فوزير الخارجيّة السوداني “تحفّظ” على مشروع الاتّفاق النّهائي لمُفاوضات واشنطن، مثلما تحفّظ أيضًا على مشروع قرار لمجلس الجامعة العربيّة يُدين الموقف الإثيوبي من سد النهضة، ويدعم الخِيارات المِصريّة لحِماية أمنها المائي.ما زالت أسباب هذا “الانقلاب” في الموقف السوداني بمِقدار 180 درجة تتّسم بالغُموض، ويُبرّره مسؤولون سودانيّون بالقول إنّ بلادهم ترفض أيّ اتّفاق جُزئي ثُنائي مع إثيوبيا لأنّ هُناك قضايا ما زالت موضِع تفاوض ذات جوانب قانونيّة، وبيئيّة، وأمنيّة، تتعلّق بأمن السد وتداعياتها على مصالح السودان، ولا يُمكن توقيع اتّفاق ثُنائي بمعزلٍ عن مِصر، ولكن اللّافت أنّ هذا التّغيير جاء بعد مُحاولة الاغتِيال الفاشِلة التي استهدفت السيّد حمدوك في الخرطوم قبل شهر، وإدانة مِصر لها وإرسال اللواء عبّاس كامل، رئيس جهاز مُخابراتها إلى السودان بعد ساعاتٍ من حُدوثها، وقيام اللواء محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب الرئيس السوداني بزيارةٍ إلى مِصر بعدها بأيّام.
مسؤول سوداني سابق كبير أكّد لـ”رأي اليوم” أنّ القِيادة السودانيّة أجرت مراجعةً شاملةً لسِياستها تُجاه مِصر وإثيوبيا وسد النهضة، ووصلت إلى قناعةٍ راسخةٍ بأنّ الانحِياز إلى الجانب الإثيوبي في هذه الأزمة قد يَنعكِس اضطرابات داخليّة، وربّما انقلاب عسكري في السودان، بسبب النّفوذ المِصري الكبير، مُضافًا إلى ذلك أنّ أيّ ضربة عسكريّة مِصريّة للسد في حال امتِلاء خزّاناته قد تؤدّي إلى فيضاناتٍ خطيرةٍ لقُرب موقع السد من حُدوده، والأهم من هذا وذاك وجود حالة من الغضب في بعض أوساط الشعب والجيش من تقارب الرئيس البرهان ونائبه حمدوك من دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وتخلّي الولايات المتحدة عن وعودها برفع العُقوبات عن السودان، بل إقدامها على فرض عُقوباتٍ جديدةٍ.
***
الصّمت المِصري الرسميّ تُجاه هذه الاستِفزازات الإثيوبيّة لافت ويَشِي بالكثير، ورغم قناعة مُعظم المُراقبين والخُبراء بأنّ مِصر لن تُقدِم على الخِيار العسكري، لأنّ لا حُدود مُشتركة لها مع إثيوبيا وبُعدها آلاف الكيلومترات عن مِصر، وانشِغال القاهرة بأزمتها الاقتصاديّة، وتَبِعات فيروس كورونا وانتشاره، ووجود منظومات دفاعيّة صاروخيّة وقبب حديديّة إسرائيليّة تحمي السد، فإنّنا نعتقد أنّ الأمن المائي المِصري يتقدّم على جميع هذه الاعتِبارات، والمؤسسة العسكريّة المِصريّة الرّاسخة الجُذور، والحاكم الفِعلي في البِلاد، لن تقبل بتهديده، والتّفريط بالحُقوق المائيّة الشرعيّة، وبِما يُهدِّد بتجويع ملايين الفلّاحين المِصريين، ولا تُريد قِيادتها أن تدخل التّاريخ كمُفرِّطٍ بهذه الحُقوق والمسألة مسألة حياة أو موت بالنّسبة للغالبيّة السّاحقة مِن المِصريين أيضًا.. واللُه أعلم.