عبد الباري عطوان
لم يَكُن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن دقيقًا عندما وصف ما يجري حاليًّا من فوضى، وأعمال عُنف، واقتِحام للكونغرس (مجلسيّ النوّاب والشيوخ) بأنّه يَعكِس تحوّل أمريكا إلى “جمهوريّة موز”، فلم يَكُن في مُعظم جمهوريّات الموز التي أُهينت بهذا التّوصيف، رئيسًا مجنونًا، وأحمقًا، وكاذبًا وغبيًّا، يتَربّع على عرش الحُكم فيها مِثل الرئيس ترامب، ويقوم المارقون الفوضويّون فيها باقتِحام البرلمان، حتى لو كان صُوَريًّا، وترويع نوّابه وزرع قنابل مُتفجّرة في أركانه، وسرقة وثائقه، واقتِحام مكتب رئيسته واحتِلاله والعبث بمُحتوياته.
الدولة الأمريكيّة العميقة هي التي تستّرت على ترامب وانتِهاكاته لأبسط قيم الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان، وأبرزها تحريض أنصاره على العُنف، ورفض نتائج صناديق الاقتِراع، والتّهديد بالسّلاح لمُناهضيهم سواءً كانوا حُكّامًا، أو مُواطنين عاديين، والسّبب في هذا التَّستُّر، أنّ هذه الدولة العميقة عنصريّة واستعماريّة، وتستخدم الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان والحريّات كشعارات مُضلّلة، لإخفاء جرائمها في العالم بأسْرِه، وخاصّةً مِنطقة الشرق الأوسط، فأيّ قيم ديمقراطيّة هذه التي تقتل الملايين في العِراق وسورية وليبيا وأفغانستان واليمن؟
***
الأصوات تتصاعد الآن لعزل ترامب ومُحاكمته، وتفعيل تعديل المادّة 25 من الدّستور الأمريكي، ونقل السّلطة إلى نائبه مايك بنس بعد تزايد الاستِقالات في صُفوف الوزراء وباقي المسؤولين الكِبار من الحُكومة، ولكن النّائب بنس، الذي لا تَقِل عُنصريّته عن رئيسه، يَرفُض هذه الخطوة، الأمر الذي قد يدفع السيّدة الشّجاعة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النوّاب لمُمارسة حقّها الدّستوري في مُحاكمته بتُهمٍ عديدةٍ أبرزها التّحريض على العُنف، وانتِهاك الأعراف الديمقراطيّة، والاتّصال بحاكم ولاية جورجيا الجمهوري، ومُطالبته بمنع فوز خصمه بايدن في الولاية وهو الذي يدّعي تزويرها وعدم نزاهتها.
الجدل الدائر الآن حول دُستوريّة عزل ترامب باعتِباره لم يَعُد مُؤهّلًا للحُكم لأسبابٍ “عقليّة” يتجاهل أمرًا جوهريًّا للغاية، وهو الأخطار التي يُمكن أن يُقدِم عليها هذا الرئيس “المجنون” و”المُتهوّر” ليس على الولايات المتحدة، وإنّما العالم بأسْرِه في الأيّام القليلة المُتبقّية من حُكمه، الأمر الذي يُحَتِّم طرده فورًا من البيت الأبيض، ووضعه تحت الإقامة الجبريّة تمهيدًا لمُحاكمته، ونزع جميع صلاحيّاته، بِما في ذلك تجريده من “الزّر النّووي”.
ربّما يُجادل البعض بأنّ مِثل هذه الإجراءات إذا ما جرى اتّخاذها، ستُحَوِّل ترامب إلى “شهيد” وبطل قوميّ، وهذا جدلٌ ينطوي على بعض الصحّة، وليس كلّها، لأنّ تركه رئيسًا حُرًّا يُمارس صلاحيّاته كاملةً قد يُؤدّي إلى نتائجٍ عكسيّةٍ وكوارث لا يُمكن تصوّرها، فالرّجل بات مِثل الثّور الجريح، ويُدرك أنّه انتهى كسياسي، وسيقضي ما تبقّى من حياته خلف القُضبان، ممّا يدفعه إلى المُغامرة والمُقامرة، فإذا لم يكسب فليس لديه ما يخسره.
ترامب الذي كان، وما زال، يعتبر نفسه فائزًا وأكبر من أمريكا، تحوّل إلى عدوّ نفسه، ووقع في خطأ كارثيّ، عندما أطلق النّار على قدمه، بتحريض أنصاره على الزّحف إلى الكونغرس، واحتِلاله، مُفْشِلًا بذلك خطّةً كُبرى كان قد أعدّها بافتِعال حرب مع إيران تُمَكِّنُه من إعلان حالة الطّوارئ والبقاء في البيت الأبيض لأطول فترةٍ مُمكنة.
تعهّده بانتقال سلس للسّلطة، وإقراره الصّوري بتقبّل الأمر الواقع وليس الهزيمة، مُجرّد مُحاولة أخيرة لكسب الوقت، ولكنّها قد تكون “مُناورة” محكومة بالفشل، بعد أن تخلّى عنه الجميع، بمن فيهم مُعظم وزرائه، ونائبه مايك بنس، وقريبًا زوجته، فعندما تَسقُط البقرة تَكثُر السّكاكين ويَكثُر الجزّارين.
توماس فريدمان الكاتب المعروف في جريدة “نيويورك تايمز” قال في آخِر مقالاته قبل أسبوع إنّه بدأ حياته الصحافيّة مُغطّيًا للحرب الأهليّة في لبنان عام 1975، ويأمل أن لا يُنهيها مُغطّيًا للحرب الأهليّة الوشيكة في الولايات المتحدة، ونُرَجِّح أنّ آماله هذه قد تخيب، فالولايات المتحدة تسير بسُرعةٍ قياسيّةٍ نحو هاوية هذه الحرب، وقد تكون أيّام وحدتها الجُغرافيّة والديمغرافيّة باتت محدودةً، وتُواجِه نهايةً ربّما تكون أكثر صُعوبةً ودمويّةً من نهاية الاتّحاد السّوفييتي.
الحيلة الأخيرة في جيب ترامب ربّما تتمثل في استِقالته قبل بضعة أيّام من مُغادرته المُفتَرضة للبيت الأبيض، وتسليم السّلطة لنائبه مايك بنس مُقابل الحُصول على العفو، والحصانة الكاملة، باتّفاقٍ مع الأخير بصفته رئيسًا للجمهوريّة، وفي هذه الحالة قد يُصبِح خطره أكبر وهو خارج الحُكم ممّا هو في داخِله.
علينا أن نتذكّر أن ترامب حصل على أصوات 74 مليونًا من الأمريكيين، مُعظمهم من العُنصريين، ويُشَكِّلون الأغلبيّة في 18 ولاية، ولن يتَورّع عن مُواصلة تحريضهم على العُنف والانفِصال، وإذا كان “التويتر” وباقي وسائل التواصل الاجتماعي قد جَمّدت، وربّما تُغلِق حِساباته لاحقًا، فَمِن غير المُستَبعد أن يُؤَسِّس محطّةً تلفزيونيّةً خاصّةً به لبثّ سُمومه، وتحشيد أنصاره العُنصريين.
***
أيًّا كانت نتائج هذا المُسلسل الأمريكي الترامبي، فإنّنا كمُواطنين عرب وشرق أوسطيين، إذا لم نَكُن أبرز الرّابحين، فإنّنا لن نكون من الخاسرين مُطلَقًا، ونحن نتحدّث هُنا عن الشّرفاء الوطنيين الذين وقفوا في الخندق المُقابل لمشاريع الهيمنة والدّمار الأمريكيّة، فانهِيار الإمبراطوريّة الأمريكيّة وبالتّالي تفكيكها، وغرقها في حربٍ أهليّة، كلّها عوامل تعني كفّ شُرورها وعُدوانها وتدخّلاتها في شُؤوننا لمصلحة دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وإيقاف عمليّات نهبها لثرواتنا من خِلال إشعال فتيل الحُروب في بلداننا.
خِتامًا نقول لرئيسها المخلوع والقادم أيضًا، وكُل الرّؤوساء الآخَرين، بِضاعَتكُم رُدَّت إليكُم، واشربوا من كأس العلقم الذي اسقيتمونا إيّاه، وزعامتكم للعالم في طريقها إلى نُقطة النّهاية المأساويّة، ولا عزاء لكُل من دفعوا التّريليونات رِهانًا على حمايتكم وعظمتكم.. والأيّام بيننا.