بقلم - عبد الرحمن شلقم
ثورة 23 يوليو (تموز) في مصر سنة 1952، وُلدت من رحم سنوات من الصراع الطويل الذي عاشته مصر منذ بداية عهد محمد علي الكبير، مؤسس مصر الحديثة، إلى نهاية سنة حكم «الإخوان المسلمين» سنة 2013. ما عُرف بحركة الضباط الأحرار التي أنهت الملكية وأسست النظام الجمهوري، خاضت معارك في داخلها بُعيد استيلائها على السلطة. مذكرات رجالها كانت الامتداد الآخر لتلك المعارك. الرئيس الأول للجمهورية اللواء محمد نجيب بعد ثلاثة عقود أمضاها صامتاً في الإقامة الجبرية، نشر مذكراته بعنوان «كنت رئيساً لمصر». ونشر الرئيس الثالث للجمهورية محمد أنور السادات مذكراته بعنوان «البحث عن الذات». شخصيتان كان لهما دور مهم في تنظيم الضباط الأحرار، وفي إنهاء النظام الملكي، وهما عبد اللطيف البغدادي وخالد محيي الدين، نشرا مذكراتهما. الأول بعنوان «مذكرات عبد اللطيف البغدادي»، والثاني بعنوان «والآن أتكلم». مذكرات الشخصيات السياسية، تلمع فيها كثير من ومضات الأنا، وتغيب فيها هزَّات من الوقائع والحوادث.
المذكرات لها سياق تقليدي، يبدأ بعرض سنوات الطفولة والبيئة الاجتماعية، ثم يصعد الكاتب إلى أن يصل إلى دوائر الفعل بحلقاتها الساخنة. بالنسبة للواء محمد نجيب، كان هناك إجماع بين الضباط الأحرار، على أنهم اختاروه ليكون على رأس الحركة؛ لما له من مواقف وطنية، ومعارضة علنية للتحكم البريطاني في مصر وسياسة الملك فاروق الخاضعة للبريطانيين، لكن العنصر الحاسم لاختيارهم له، كان رتبته العسكرية العالية وسنّه، وتواضع رتبهم العسكرية، فالشعب المصري لن يؤيد حركة عسكرية يقوم بها ضباط صغار في السن والرتب، ولم يسمع بهم أحد من قبل. وكانت جولة الاختبار الأولى له في انتخابات نادي الضباط، حيث وضع الضباط الأحرار اسم اللواء محمد نجيب على رأس قائمة مرشحيهم لمجلس إدارة نادي الضباط. يقول محمد نجيب في الصفحة 107 «لقد استغل الضباط الأحرار اسمي وسمعتي وشعبيتي أحسن استغلال في اختبار قوتهم. أعلنت النتيجة، حصلتُ على أغلبية ساحقة شبه جماعية». ليلة تنفيذ الحركة، كان نجيب بمنزله ينتظر اتصالاً هاتفياً من الضباط الأحرار لإبلاغه بنجاح الحركة لينتقل مسرعاً إلى مقر قيادة الجيش بعد سيطرتهم عليه، وأذيع البيان الأول للمرة الثانية باسمه. نجحت الحركة وسيطرت على كل مفاصل الدولة، لكن المعارك بدأت مع الأحزاب، ثم مع حركة «الإخوان المسلمين». أم المعارك كانت في داخل مجلس الثورة المكون من اثني عشر ضابطاً. البكباشي جمال عبد الناصر مؤسس الحركة وقائدها، واللواء محمد نجيب كبير السن والرتبة العسكرية، كانا رأسَي الصدام. نجيب حصل على تأييد شعبي واسع، لكن عبد الناصر فرض قيادته على المجلس. أعفى نجيب من الرئاسة وأعيد لها بتكتيك محسوب من عبد الناصر. وانتهى به المطاف معزولاً في معتقل لعقود ثلاثة. الرئيس أنور السادات، بحث في مذكراته طويلاً عن ذاته، وهي كما صورها ذات الوطن. خاض مغامرات سياسية قادته إلى السجن لسنوات. تحدث بإسهاب عن أيامه بين المحاكم والسجون، وكيف نجح بذكائه ومراوغته من الحصول على البراءة. اللافت في بحثه ما جاء في سطور مذكراته، أنه هو مؤسس حركة الضباط الأحرار وليس جمال عبد الناصر. في الصفحة 34 كتب «كان الجميع يستجيبون للدعوة بسرعة وحماس، وكانت الدعوة أننا يجب أن ننتهز الفرصة ونقوم بثورة مسلحة ضد الإنجليز في مصر. هكذا قام أول تنظيم سري من الضباط، وكان ذلك في سنة 1939. كان ضمن أعضائه عبد المنعم عبد الرؤف، وكان يعتبر الرجل الثاني بعدي وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين»، ثم يضيف «لم ألجأ إلى الخلايا السرية للدفع بهذه الثورة المسلحة لبلوغ أهدافها كما فعل عبد الناصر بعد عودته من السودان في ديسمبر (كانون الأول) 1942 وتسلمه التنظيم في أوائل سنة 1943 بعد اعتقالي». هكذا إذن السادات هو مؤسس الحركة التي قامت بالثورة وأنهت الملكية.
خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، ينفي ما قاله أنور السادات. في الصفحة 76 في كتابه «والآن أتكلم»، يقول خالد «في الجلسة الأولى، ومنذ أن احتوتنا غرفة الصالون في بيت عبد الناصر بكوبري القبة، تولى جمال القيادة من دون عناء، وبلا قرار منه أو منا». ويضيف خالد «كان الأعلى رتبة؛ فهو بكباشي، وكنا أقل منه رتبة، أنا كنت يوزباشي، وكمال الدين حسين يوزباشي، ولكن أقدم مني. صحيح أن عبد المنعم عبد الرؤف كان أقدم من جمال، لكن جمال كان صاحب الفكرة وصاحب الدعوة». لقد نسف خالد ما ذكره السادات بقوله إنه مؤسس الحركة وإن عبد المنعم عبد الرؤف كان الرجل الثاني بعده في التنظيم.
في الصفحة 107 من مذكراته، يقول خالد محيي الدين «وبهذا أصبحت لجنة القيادة مكونة من: جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر، حسن إبراهيم، عبد المنعم عبد الرؤف، صلاح سالم، عبد اللطيف البغدادي، كمال الدين حسين، خالد محيي الدين». ويضيف خالد «ثم طلب جمال (ضم) أنور السادات للحركة لما له من خبرة سابقة في الأنشطة السياسية، ربما نحتاج إليها، وفعلاً تم ضمه إلى الحركة وإلى لجنة القيادة». ويستطرد خالد في الحديث عن السادات، فيقول في الصفحة نفسها «والغريب في الأمر أن جمال أسرّ لي بعد فترة وجيزة، أنه يشك في السادات وأنه كسول، ولا يقدم للحركة شيئاً، فسألته: لماذا ضممته إذن؟ فأجاب: لأنه مصدر مهم للمعلومات، فهو على علاقة بيوسف رشاد وبمستر سمسون السكرتير بالسفارة البريطانية. وكان سمسون ممثل المخابرات البريطانية في مصر في زمن الحرب العالمية الثانية. وسألت عبد الناصر: ألا تخشى من السادات؟ فقال: ربنا يستر، بس لازم نبقى صاحيين. ولم يكن للسادات أي دور ليلة الثورة، حيث كان رفقة زوجته بالسينما، والتحق بها بعد نجاحها وقام بقراءة البيان الأول». تحدث خالد مطولاً عن المعارك داخل المجلس وتمرد سلاح الفرسان، وتبنيه هو للديمقراطية التي انتهت بنفيه إلى سويسرا. عبد اللطيف البغدادي، وجّه في مذكراته نقداً حاداً لسياسات عبد الناصر، خاصة هزيمته في يونيو (حزيران).
تلك المذكرات كانت مغصاً حاداً في ماضِ لم يكن سهلاً، تصادمت فيه الوقائع بالذرائع، وهكذا هي السياسة دائماً.