ملاحم الرائد عبد السلام جلود

الدار البيضاء اليوم  -

ملاحم الرائد عبد السلام جلود

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

في شهر يناير (كانون الثاني) صدرت مذكرات الرائد عبد السلام أحمد جلود. سعدتُ كثيراً بهذا العمل الذي يمثل حدثاً مهماً للتاريخ السياسي الليبي. مذكرات السياسيين لها أهمية كبيرة للشعوب، فهي إضافة لذاكرة الأوطان، وتلقي أضواء مهمة على حلقات الماضي التي لا تزول آثارها على دروب الحياة. عبد السلام جلود من الشخصيات التي لعبت دوراً كبيراً في ليبيا من 1969 إلى 1994. ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) التي فكّر فيها معمر القذافي الشاب الطالب وهو في المرحلة الإعدادية بمدرسة سبها في الجنوب الليبي، في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، كانت حلماً شبابياً ومغامرة تحركت في قلوب مجموعة محدودة من الشباب الليبي، قبل أن ترتسم خطوطها في عقولهم.
لقد سررتُ كثيراً بصدور هذه المذكرات. للأسف أنَّ كل الساسة الليبيين الكبار في العهدين الملكي والجماهيري لم يكتبوا مذكراتهم، باستثناء اثنين هما: مصطفى بن حليم ومحمد بن عثمان الصيد، وكانا من أبرز رؤساء الوزارات في العهد الملكي. هناك شخصيات لعبت دوراً في مراحل حساسة من تاريخ لم تكتب مذكراتها، ومن بين هؤلاء محمود المنتصر، أول رئيس لوزراء ليبيا بعد الاستقلال، وكان من بناة دولة الاستقلال الاتحادية، وتولى رئاسة الديوان الملكي وترأس وزارتين، وحسين مازق الذي كان والياً لبرقة ورئيساً للوزراء، وهو من الشخصيات التي امتازت برؤية سياسية، وكان معروفاً بالحكمة والنزاهة، وعبد الحميد البكوش الشاب المحامي والمثقف الذي طرح موضوع الشخصية الليبية.
أما رجال العهد الجماهيري وفي مقدمتهم أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الوحدويون الأحرار ورؤساء الحكومات وأمناء مؤتمر الشعب العام، فلم ينشر أحد منهم مذكراته. الأمل أن تحفّز مذكرات الرائد عبد السلام جلود مَن هو على قيد الحياة منهم، ولهم قدرة على كتابة مذكراتهم مباشرةً أو الاستعانة بمن يساعدهم على صياغتها، ومن بينهم شخصيات بارزة امتلكت قدرات إدارية وسياسية وفنية وقدمت الكثير للوطن في أصعب الظروف.
عبد السلام جلود كان الرجل الثاني في حركة الوحدويين الأحرار منذ البداية. التقى الطالب معمر القذافي في سبها، عاصمة ولاية فزان سنة 1957 عندما جرى اعتقالهما بمركز للشرطة إثر مظاهرة قام بها الطلاب، احتجاجاً على التجارب النووية الفرنسية بالجنوب الجزائري القريب من الحدود الليبية. بدأ الاثنان، معمر وعبد السلام، في تشكيل خلايا سرّية من الطلاب بعدما اتفقا على تأسيس حركة تهدف إلى إسقاط النظام الملكي، وإقامة جمهورية تجسد أفكار جمال عبد الناصر في الحرية والاشتراكية والوحدة. الطالب معمر بومنيار القذافي كان هو الزعيم الذي سار وراءه الجميع منذ البداية. وضع معمر خطته مبكراً، وهي استعمال الجيش سلّماً للوصول إلى السلطة منتهجاً ذات الخطة التي وضعها جمال عبد الناصر ونفّذها بنجاح. كان عبد السلام جلود منذ البداية التوأم المدني والعسكري والفكري لمعمر القذافي.
في بداية مذكراته تحدث عبد السلام جلود عن طفولته بمنطقة الشاطئ في الجنوب الليبي، ومنها إلى لقائه الأول مع معمر القذافي بمركز البوليس بمدينة سبها. بعد الاعتقال، أُعطيت لكل واحد منهما بطانية، اقترح معمر على عبد السلام أن يشتركا في افتراش واحدة والغطاء بأخرى. لم يكن أحد منهما فد قابل الآخر، ولكنّ صديقاً مشتركاً لهما هو محمد بلقاسم الزوي كان قد حدّث كل واحد منهما عن الآخر.
هكذا في مركز البوليس بمدينة سبها كانت بذرة الخلية الأولى لحركة الوحدويين الأحرار الليبية، وسقتها الأيام والسنوات بمياه السرّية المدنية والعسكرية إلى أن ترعرعت واستولت على السلطة في أول سبتمبر 1969. منذ البداية احتل عبد السلام جلود المرتبة الثانية في الحركة بعد معمر القذافي، وقبل ذلك بعد نجاح الحركة كل أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار. كانت وسائل الإعلام في الخارج تصفه بالرجل الثاني، وكان هو يقول عن نفسه إنه الأول مكرر.
في ليلة الأول من سبتمبر، كان معمر القذافي في بنغازي ومعه بعض الضباط الأحرار، وكان عبد السلام جلود في طرابلس.
مباشرةً بعد نجاح الحركة وإعلان اسم معمر قائداً لها ومنحه رتبة عقيد، وإعلان أسماء أعضاء مجلس قيادة الثورة، برز الرائد عبد السلام جلود كشخصية ثانية بين الأعضاء وتولى قيادة المفاوضات مع الأميركان حول إجلاء القواعد العسكرية الأميركية، وبعد ذلك مع البريطانيين لإجلاء قواعدهم العسكرية من ليبيا. مع الطرفين تبدت شخصية جلود المتشددة، وبعد ذلك قاد المفاوضات مع شركات النفط الأجنبية. شُكلت الوزارة الأولى بعد الثورة برئاسة محمود المغربي ولم تدم إلا شهوراً معدودة، قام بعدها العقيد معمر القذافي بتشكيل الوزارة الثانية، وتولى فيها الرائد عبد السلام حقيبة الداخلية. وفي سنة 1972 شكّل عبد السلام جلود الوزارة الثالثة واستمرت حتى سنة 1977، ويعد بذلك أطول رئيس وزراء مدة في تاريخ ليبيا.
لا شك أن المذكرات التي تُكتب بعد مرور سنوات طويلة على الأحداث التي تسردها يطالها الكثير من الشوائب، من حيث التواريخ والأسماء، ولم تكن مذكرات الرائد جلود استثناءً من ذلك.
في ليبيا التي عاشت مخاضات كثيرة، ودخلت في معارك سياسية وعسكرية ومواجهات مع دول قريبة وبعيدة، وكذلك صراعات داخلية أخطرها المحاولات الانقلابية التي كان بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وبعض الضباط الأحرار من بين المشاركين فيها، كل ذلك من دون شك يكون له حضور بين سطور المذكرات. الجانب الذاتي، وَلْنَقُلْ الشخصاني، لا يغيب كذلك عن صفحات المذكرات. مَن يتذكر لا يتحرر من ذاته وهو يحرِّر. يتحرك المُتذكِّر بين موجات الضحية والبطل، ومَن تتحرك في حياته وتاريخه ذبذبات الآيديولوجيا، تحدوه الحالة الخطابية. كل تلك المحركات نجدها في مذكرات رجال السياسة والعسكرية والفن والأدب. هناك أشخاص اشتركوا في نشاط واحد لسنوات طويلة، ولكن عندما نقرأ مذكرات كل واحد منهم، نجد بين أيدينا أوراقاً سُطِرت عليها معلومات بل أحداث، بها الكثير من الاختلاف كأن من كتبوا لم يجمعهم مكان أو زمان أو نشاط. كل واحد يرى الأحداث ويكتبها من وجهة نظره.
مذكرات الرائد عبد السلام جلود التي اختار لها عنوان «الملحمة» هي في صفحاتها الـ456 أكثر من ملحمة، بل هي ملاحم طويلة بكل تجلياتها منذ الطفولة إلى آخر يوم توقف فيه عند الكلام المسكوب فوق صفحات كتاب مذكراته، الملحمة. ولي عودة إلى رحلة جلود الطويلة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملاحم الرائد عبد السلام جلود ملاحم الرائد عبد السلام جلود



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca