عباس العقاد بلا بيت

الدار البيضاء اليوم  -

عباس العقاد بلا بيت

سوسن الأبطح
بقلم:سوسن الأبطح

بعد عامين، تكون 60 سنة قد انقضت على وفاة صاحب «العبقريات»، وهي فرصة لتحقيق حلم محبي عباس محمود العقاد في إنقاذ منزليه في أسوان والقاهرة، وتحويلهما إلى مزارات لعشاق أدبه، بدل تركهما نهباً للضياع. فلا يكاد يمضي وقت إلا ويخرج علينا أحد أفراد عائلة العقاد، يشكو من أن أحد المنزلين مهدد بالزوال. ومن الغريب ألا يكون للعقاد نصيب طه حسين، وأحمد شوقي في الاهتمام بإرثه، أو حظ نجيب محفوظ، رغم أنه أحد أكبر أدباء العرب في القرن العشرين، وأشدهم بأساً وعناداً والتزاماً بالقضايا التي دافع عنها.

من يدخل مدينة أسوان، يستقبله تمثال العقاد العملاق بهامته الشاهقة. ومع أن العائلة لم ترضَ عن هذه المنحوتة لأنها لا تشبه بالقدر الكافي صاحبها، فإنها على الأقل تذكّر الزائر أنه يطأ مدينة أنجبت رجلاً فذاً. عبثاً تبحث عن المنزل، الذي تكتشف فيما بعد، أنه أشبه بخرابة، ولا شيء فيه يستحق الزيارة. أما حين تقع عينك على مبنى كتب عليه «قصر ثقافة العقاد» وأنت تعبر كورنيش النيل الذي تصطفّ فيه عشرات العبّارات السياحية، وتعرف أن بعض مقتنيات الأديب موجودة فيه، تشعر أنك عثرت على كنز. حدث معي هذا، فهرعت مسرعة صوب قصر العقاد، لأجده مغلقاً. كدت أفقد الأمل حين قيل لي إن الشخص الذي معه المفتاح ليس موجوداً. بعد الترجي والتمني، والتوسل، حضر المفتاح ودخلت المكان، وكأنني أمام فتح لم يسبقني إليه أحد.
على عكس كل متاحف الأدباء، وربما بسبب قلة الزوار، يمكنك أن تلمس كل شيء، أن تتناول مؤلفات من مكتبة العقاد وتتصفحها، ترى الملاحظات التي دوّنها. أن تجلس على سريره أو كنبته، أن تفتح أدراج مكتبه الذي كان يدوّن عليه مخطوطات كتبه، ولدهشتك تجد بعض الحاجيات التي لا تزال هنا. لا يُفهم كيف تركت كرفتات وبيريهات العقاد الشهيرة، ولفحات الرقبة على مشجب، يمكن لأي زائر أن يضع ما يختاره منها في جيب أو حقيبة. مكشوفة نهباً للغبار والتآكل السريع، بدون أي عازل يحميها، الأمر نفسه ينطبق على روب النوم الشتوي البني الشهير، الذي يظهر فيه في كثير من مقابلاته الأخيرة. فالمكان لم يُعدّ ليكون متحفاً، والمقتنيات معروضة كأنها وجدت بعفوية، والدعاية لها معدومة.
الضيم الواقع على العقاد تجاوز أسوان، ووصل إلى بيته في القاهرة، الذي ضم، ذات يوم، أشهر صالون أدبي عرفه العرب في عصرهم الحديث. ثمة إهمال رسمي عربي للثقافة عموماً. فهي ليست من ضمن الأولويات، لأن المسؤولين لا يصدقون أنها استثمار مربح. أسوان يزورها ملايين السياح، ومن الإجحاف ألا يتحول بيت العقاد هناك إلى مؤسسة ومتحف، تباع تذاكره كما بيت بلزاك في باريس أو فيكتور هوغو.
إهمال بيوت الأدباء والفنانين العرب بات مزمناً وخطيراً. ففي لبنان، باستثناء متحف جبران خليل جبران في بلدة بشري، الذي يمول نفسه ذاتياً، بفضل خطة وضعها له الأديب قبيل موته، فإن ما يتركه الأدباء خلفهم يتحول إلى عبء، وربما لعنة. ميخائيل نعيمة مقتنياته موزعة بين بيتين، ترعاهما العائلة، قدر ما تستطيع. بيته الشتوي في الزلقا، الذي قضى فيه السنوات الأخيرة، تحول إلى سكن للطلبة ونقلت المقتنيات إلى بيت جديد. مارون عبود منزله في عين كفاع، لا يزال جزءاً منه على حاله، بفضل أحفاده، لكن إلى متى؟ هذه البيوت إما مستأجرة كحال منزل العقاد في مصر الجديدة، أو هي ملك عائلي لا بد أن ينتفع به أصحابه. فأن يكون الأب أو الجد، أديباً كبيراً، لا يعني أن يتحول إرثه إلى وقف، وتركته إلى مهمة مستحيلة. أمين ألبرت الريحاني، يرعى منزل عمه أمين الريحاني، يرعى المتحف بجهد كبير، لكن هذه المشروعات مكلفة ومتعبة، وتحتاج إدارتها كمؤسسات، ورعايتها كمشروعات وطنية وأن يتم السعي لتطويرها باستمرار.
تحزن حين ترى فندقاً من الطراز الحديث في ميدان التحرير، في القاهرة، شيد على أنقاض منزل هدى شعراوي. ولا أزال أسأل نفسي عما حصل لمقتنيات الشاعر إلياس أبو شبكة التي كانت ذات يوم في حوزة زوجته، وبطلة قصيدته الشهيرة «غلواء». كان بين المقتنيات أثاث منزله، ولكن أيضاً كتبه ومخطوطاته ونظّارته وهويته اللبنانية. في جولة على منازل الأدباء، كنت في كل مرة أجد عائلات، تفتح أبوابها، وخزائنها، وتستقبل من يسأل ويهتم، بكرم بالغ، وتحتضن الإرث بمحبة وحنو، ولكن إلى متى؟
الحفاظ على آثار الأدباء. فأكثر ما يحتاجه الجيل الجديد هو القدوة والنموذج ، النموذج ، والمرجعية ، ومن دون هؤلاء الكبار ، يجد النشء من يركنون إليه ، من يسمعون صوته ، أو يصغون إلى فكره. شبابنا يعيشون فراغاً روحياً. ، ولكن ، حتى تصل إلى بلوغها.
يحمل اسمًا على سقالات خشبية ، وطول الإهمال. فالأديب الكبير يحتاج إلى منزل ، ونحن نريد أن نستظل البيت ونركن إلى فيئه. للبيوت حرماتها ، لكن لبيوت الأدباء أرواح ، وعِبر ومسارب إلى حيوات كثيرة أخر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عباس العقاد بلا بيت عباس العقاد بلا بيت



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca