كيفما يمَّمت وجهك صوبَ أوروبا، وجدتها مزنرةً ببؤساء يحاولون اختراق الحدود إلى جنة الرجل الأبيض، من البحر، عبر الجبال، وسط الغابات، من ليتوانيا، البوسنة، المجر، الشواطئ اليونانية، الإيطالية، الإسبانية. كلما سُدّ منفذ، وجد هؤلاء مداخل جديدة، يتسللون منها. لم تكن حيلة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، لتنجح، ويتمكن من اجتلاب الآلاف، في موسم الصقيع لابتزاز أوروبا، والدفع بهم إلى الحدود البولندية، لولا أن اليأس في منطقتنا، بلغ حدود الانتحار الجماعي. ليس بمستهجن أن يفضّل الهاربون الموت على العودة إلى ديارهم. لم أتحدث مع ناجٍ إلا وأكد أنه سيُعيد الكرة مرات، وأن موته وأولاده في البحر أهون عليه من أن يلقى حتفه في بلده جوعاً أو على باب مستشفى.
قيل إن المتوسط تحول مقبرة بعد أن ابتلع 17 ألف جثة في السنوات السبع الأخيرة، وكثر غيرهم لم يجدوا من يحصيهم. أضيف إلى المتوسط، المحيط الأطلسي، وبحر المانش، الذي انضم إلى لائحة المقابر المائية الجماعية، بعد أن أصبح آلاف الواصلين إلى فرنسا يريدون اجتيازه صوب بريطانيا، ويتسببون بأزمة دبلوماسية كبرى، وتبادل اتهامات بين البلدين. كل يريد أن يلقي بأثقال طالبي الخلاص على الآخر. الأزمة إلى تصاعد، واليمين المتطرف في أوروبا يحصد قمح الفقراء سهلاً سائغاً.
تحذّر منظمات أممية من أن استشراس المهاجرين، واستعدادهم لتحمل المخاطر بات أكبر. من بين كل 18 شخصاً يقطع المتوسط يموت واحد، والذين يعبرون الأطلسي إلى جزر الكناري في وضع أخطر بسبب الأعاصير العاتية، ومن غرقوا هذه السنة هم ضعف عدد الهالكين في الفترة نفسها من السنة الفائتة. لكن هذا لن يمنع مزيداً من القوارب، وفائضاً من تجار البشر، أن يجازفوا بحيوات غالية على قلوب أحبتها.
وإذ ينضم لبنان إلى قائمة الدول المصدرة للضحايا، بعد العراق واليمن وسوريا، وتونس، ذاك يؤكد أن أوروبا ينتظرها مزيد من التحديات، والخلافات البينية والتصدعات. فما يطبخ شرقاً قد لا يهضم بسهولة غرباً
وحين يروي أحد الناجين اللبنانيين أنه أبحر على قارب صيد صغير، ازدحم بعشرات الركاب الذين لا مكان لهم لافتراش الأرض، ولا يمكنه أن يصل إلى قبرص، فيما وجهتهم إيطاليا، تدرك أنك لست أمام تجّار، وإنما قتلة. وحين تعرف أن القارب أبحر تحت وابل من الشتاء ووسط العواصف، وليس لهؤلاء من سقف صغير وسط الأنواء، تتأكد أن عصابات المتاجرة بآمال المعذبين، مجموعة من السفّاحين.
الكلام عن الجوع والعوز ليس كافياً لفهم الظاهرة، فمن يغامر بدفع آلاف الدولارات، وحين لا يفلح، يجمع آلافاً أخرى، ويسعى من جديد، فهذا لا يبحث عن طعام. حين يخبرك أحدهم، أنه حاول 7 مرات، يعني أنه دفع على الأقل 21 ألف دولار، قبل أن يصل إلى شاطئ أوروبي.
بنى الشباب آمالاً كبرى على الربيع العربي الذي انطلق من تونس، لكن الدراسات تظهر أن المنطقة العربية كلها، من حينها، تدحرجت إلى الوراء، وغرقت في ظلمة موحشة. حروب، اقتتال، نزاعات، فتن، انهيارات، أوحت بأن المخارج باتت موصدة.
على مفصل كوني هائل، ووسط سباق عالمي للحاق بركب الثورة الصناعية الرابعة، يكتشف العرب أنهم لم يركبوا القطار أصلاً، بنوا أنظمة ريعية، غير منتجة، ولم يحسنوا استخدام مواردهم. هذا ما تقوله الدراسة المهمة جداً التي أطلقتها «مؤسسة الفكر العربي» قبل أيام تحت عنوان «العرب وتحديات التحول نحو المعرفة والابتكار». التأخر في كل مجال، بدءاً من البنى الرئيسية، وفي الرؤية العامة لمعنى الدولة ووظيفتها
إذا كان الأمن الغذائي هو على رأس الأولويات، فإن الدول العربية بغالبيتها انخفضت محاصيلها ومنتجاتها، بنسب مريرة، ليس فقط بسبب الحروب في دول لها إمكانات زراعية كبيرة، وإنما نتيجة التقاعس عن تبني إمكانات تكنولوجية حديثة. لا يوجد أي نمو زراعي يذكر في أي بلد عربي، حتى سوريا التي كانت تؤمّن اكتفاءها من بعض المحاصيل، أصيبت بنيتها الزراعية بأضرار كارثية. لسنا فقط مهددين بالجوع، بعد أن تبين بأن قرب المسافات الجغرافية للإنتاج هو أمر بالغ الأهمية، وإنما بالعطش كذلك. وبينما صنفت دول خليجية عربية، منها الكويت والعراق، على لائحة أكثر الدول تأثراً بموجات الحر والجفاف، لا يعبأ العرب بدراسات المناخ، أو البيئة، وتكاد جامعاتهم تخلو، إلا فيما ندر من أبحاث تعنى بالمتغيرات الخطيرة التي سيكونون من أول ضحاياها. نحن لا نزال نشرب ونغتسل، ونبذّر، لكن حصة الفرد العربي من المياه انخفضت نحو 200 متر مكعب خلال العقد الأخير حسب المقياس العالمي. وإذا استثنينا من الحساب موريتانيا والعراق ولبنان والسودان، فإن المعدل ينخفض إلى 500 متر مكعب في السنة الواحدة. ما يعني أن نصف العرب تقريباً يعانون من فقر مائي.
وإذا بقينا في الأساسيات، الثلاث، الماء، الغذاء، والدواء، فإن الإحصاءات تشير إلى أن 29 في المائة من العرب فقط راضون عن نظامهم الصحي، فيما يصل المتوسط العالمي إلى 40 في المائة.
ركّاب قوارب الموت لم يقرأوا هذه النتائج المعتمة، لكنهم يعيشونها في يومياتهم، يعرفون أن ما بيدهم اليوم سيتبدد غداً ولن يعوض بسبب انسداد الأفق. يفضلون أن يتحولوا إلى أشلاء، بقايا تلفظها البحار، عظام تغصّ بها الشواطئ، تبحث عنها الأمهات المفجوعات، ليدفنّ بقايا أولادهن، في قبور تؤويهم، على أن يروا مأساة الغد.
الإنسان العربي لا يبحث اليوم عن طعام يسدّ رمقه، وإنما فقط عن بارقة أمل.