يعيش المتحف البريطانى منذ أربعة عقود مضت- وإلى وقت كتابة هذا المقال- كابوسًا اسمه «منحوتات الجين الرخامية Elgin Marbles»، أو ما يعرف أيضا بـ «منحوتات البارثينون».
ولكى نوضح للقارئ غير المتخصص قصة هذه المنحوتات، وسبب الكابوس الذى يعيشه المتحف البريطانى وإداراته المتعاقبة؛ إضافة إلى حكومات إنجلترا المختلفة خلال الأربعين سنة الماضية، يجب علينا العودة بالزمن إلى عام ١٧٩٨م، وتحديدا فى شهر نوفمبر عندما تم تعيين اللورد توماس بروس وهو اللورد السابع لـ «الجين»، كسفير فوق العادة لدى الباب العالى فى الإمبراطورية العثمانية التى كان يحكمها آنذاك السلطان سليم الثالث.
وكعادة سفراء وقناصل الدول الاستعمارية فى ذلك الوقت كان همهم الأول هو نهب كنوز وآثار البلاد المحتلة، والعمل على مضاعفة ثرواتهم الشخصية قبل العودة إلى بلادهم أو الانتقال إلى بلد أجنبى آخر.
ومن سوء حظ اليونان أنها كانت فى ذلك الوقت قابعة تحت الاحتلال العثمانى. وخلال السنوات الممتدة من ١٨٠١م وحتى ١٨١٢م، استطاع لورد الجين وأعوانه قطع عشرات الأمتار من المنحوتات الرخامية التى لا يوجد مثيل لها فى الفن اليونانى الكلاسيكى. وتعود هذة المنحوتات إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقام بنحتها المثال اليونانى الشهير فيدياس وتلاميذه لتزيين أفاريز معبد البارثينون، معبد الإلهة أثينا المبنى فوق قمة جبل الأكروبول.
وتمثل المنحوتات الرخامية ذكرى الحرب مع القناطير (أنصاف البشر والخيل)، وكذلك مواكب الاحتفال بعيد النصر للإلهة أثينا الربة الحامية للمدينة ولجبل الأكروبول. وقد نفذت المنحوتات الرخامية بأسلوب النقش البارز القريب من الفن الثلاثى الأبعاد؛ بمعنى أن النقوش تبدو كما لو كانت تماثيل ملتصقة بالجدران وليست حرة تماما.
وإلى جانب أفاريز معبد البارثينون التى نهب لورد الجين أكثر من نصفها، قام هو ورجاله بنهب وسرقة عشرات التماثيل والقطع الفنية من البارثينون ومن غيره من المعابد والمقاصير التى كانت مقامة فوق الأكروبول.
فى بادئ الأمر ادعى لورد الجين أنه قد أنفق من ماله الخاص أكثر من سبعين ألف جنيه إسترلينى لإتمام العمل وشحن الآثار إلى بريطانيا، وقال إن نيته كانت الاحتفاظ بها لنفسه، وأنه كان ينوى أن يزين بها قصره الخاص بأسكتلندا، ولكن الحاجة إلى المال هى ما دفعته إلى عرضها للبيع على الحكومة البريطانية التى وافقت على شرائها بمبلغ ٣٥ ألف جنيه إسترلينى فقط!، بعدها قامت الحكومة البريطانية بمنح حيازتها وعرضها للمتحف البريطانى. المهم أن رواية لورد الجين لا يمكن تصديقها بحال من الأحوال عملا بالمثل الشعبى «قالوا للحرامى إحلف قال جالك الفرج!».
كما يجب أيضا أن نوضح أننا لسنا وحدنا من نتهم لورد الجين المحترم بالسرقة، ولكن العديد من الشخصيات المرموقة الإنجليزية نعتته بذلك، بل وصفت ما قام به بأنه أعمال نهب وسرقة. وقد ادعى لورد الجين أنه قام بنزع آثار البارثينون وتماثيله من أماكنها، بعد أخذ موافقة الباب العالى الذى أصدر فرمانًا يصرح له بنهب وتجريف اليونان من تراثها وآثارها.
والغريب أن كثيرا من الباحثين عن الحقيقة حاولوا أن يجدوا مثل هذا الفرمان فى أرشيفات الدولة العثمانية المعروفة بحفظها كل فرمانات سلاطينها، حتى تلك التى تمنح لقب «الباشوية» أو حتى «الباكوية»!.
كما فشل أيضا من قبل اللورد الجين نفسه فى إظهار أى وثيقة تظهر أنه كان مصرحا له بالقيام بجريمته ضد آثار اليونان، زاعما أن الفرمان الأصلى الصادر من الباب العالى تم تسليمه إلى الموظف العثمانى بأثينا عام ١٨٠١ لكى يسمح له بقطع المنحوتات من المعبد.
فى عام ١٨٣٢ نالت اليونان استقلالها من العثمانيين وبدأت تلملم حالها وتنقذ ما يمكن إنقاذه من تراثها وآثارها المغتصبة والمهدمة، والحقيقة أنهم وطوال هذه السنوات قاموا بتحقيق معجزة حقيقية كثيرا ما أشدت بها خلال زياراتى المتعددة لأثينا وسالونيك وغيرها من الجزر اليونانية.
وكان من أجمل ما قاموا به إقامة متحف الأكروبول على مقربة من البارثينون، وفيه قاموا بعرض ما تركه لورد الجين من منحوتات أفاريز المعبد وقاموا بعرضها تاركين مساحة ضخمة فارغة بحجم المنحوتات المسروقة والمعروضة بالمتحف البريطانى، وبالطبع بمجرد أن يقف الزائر أمام تلك المساحة الخالية من المتحف يقرأ قصة العار الذى يعلو جبين المتحف البريطانى الذى لم يكتف فقط بشراء وعرض آثار منهوبة من دولة محتلة، بل قام بإطلاق اسم السارق على الآثار فأصبحت المجموعة تعرف باسم «منحوتات الجين الرخامية»، كما سبق وأشرنا.
بل إن المتحف البريطانى لم يكتف بالجريمتين السابقتين فقط بل قام بعرض المنحوتات الرخامية فى قاعة مستطيلة مظلمة أطلق عليها اسم قاعة دوفين، وهو البارون جوزيف دوفين أحد أشهر تجار الآثار فى القرن العشرين.
فى الثمانينيات من القرن الماضى ظهرت أول مطالبة رسمية من دولة اليونان لإنجلترا من خلال وزيرة الثقافة اليونانية ميلينا ميركورى. وفى حين لم يصدر أى رد رسمى من المتحف البريطانى الذى ترك الأمر للحكومة والبرلمان، فكان الرفض هو الأمر المتوقع. بعدها توالت المطالبات من خلال كافة المستويات السياسية والثقافية، والتى كانت تخمد أحيانا وتنشط أحيانا أخرى، ولا يكاد يمر عام دون خبر عن مطالبة من هنا أو هناك. وفى المقابل كان المتحف البريطانى والحكومة الإنجليزية أحيانا يعطيان إجابة حاسمة، وأحيانا أخرى يماطلان فى الرد ويتعللان بدراسة الطلب وأحيانا أخرى يطلبان مزيدا من الوقت... وهكذا!.
وكان من أهم الخطوات التى اتخذتها اليونان طلبها الرسمى من منظمة اليونسكو عام ٢٠٠٤ التدخل لدى المتحف البريطانى وحثه على إعادة المنحوتات الرخامية المنهوبة من البارثينون. وبالفعل قامت اليونسكو بمخاطبة المتحف البريطانى وحثه على التفاوض مع الجانب اليونانى. وللأسف فوجئ اليونسكو برد عجيب من المتحف البريطانى يقول إنه غير معنى بموضوع وساطة اليونسكو، وأن على اليونسكو مخاطبة الحكومة الإنجليزية وليس المتحف!.
وقد تلا ذلك بعض الخطوات من المنظمات الأهلية والشعبية التى قامت بمحاولات الضغط على الحكومة الإنجليزية والمتحف لإعادة الآثار المنهوبة إلى اليونان. وفى حقيقة الأمر فإن المتحف البريطانى وجد نفسه فى موقف لا يحسد عليه، ولا يتمناه أى متحف فى العالم، ولولا برودة أعصاب الإنجليز لما تحمل موظفوه مثل تلك السمعة السيئة والاتهامات بالنهب والتدمير والسرقة. وقد قامت الصحافة خلال الأربعة عقود الماضية ولا تزال بواجبها نحو إلقاء الضوء على القضية من حين لآخر، ومحاولة أخذ تصريحات من مسؤولين بالمتحف البريطانى ومن أمناء المتحف.
ولا نعنى هنا الصحافة العالمية فقط بل الصحافة الإنجليزية التى ساهمت أيضا فى «العكننة» على العاملين بالمتحف البريطانى. الذين صرحوا ذات مرة بأن منحوتات الجين «جزء من تراث يشترك فيه الجميع ويتجاوز الحدود الثقافية!». هذا بالطبع كلام أجوف لا معنى له، وهو مجرد تصريح ممن هو على شفا الهاوية، فهو ساقط فيها لا مفر.
والمضحك بل المثير فى الأمر أن الاهتزاز والرعب الذى أصاب المتحف البريطانى وصل إلى حد قيامهم بإلغاء مشروع توثيق المنحوتات بالمسح الضوئى والمسح الذرى، وذلك بعد انتشار شائعة أن المتحف يقوم بذلك العمل تمهيدا لعودة المنحوتات الأصلية إلى اليونان، واستبدالها بمستنسخات طبق الأصل. وكان من نتيجة إلغاء المشروع أن المتحف خسر أموالا طائلة كانت قد أنفقت على المعدات والأجهزة وغيرها.
وفى العام الماضى ٢٠٢١م طالبت اليونان إنجلترا بإعارتها المنحوتات الرخامية لمدة محددة من الوقت فى مقابل إعارة اليونان المتحف البريطانى آثارا يونانية نادرة لم تخرج يوما من اليونان. كان طلب اليونان الغرض منه الاحتفال بمرور ٢٠٠ سنه على حروب التحرير ومناهضة الاحتلال، ورغبتهم فى وجود منحوتات البارثينون المنهوبة داخل اليونان فى تلك المناسبة. ولكن رفض المتحف البريطانى ورفضت الحكومة الإنجليزية طلب اليونان العادل.
وقد يتساءل البعض عن موقف دول الاتحاد الأوروبى من القضية واليونان عضو به، والإجابة ببساطة أن دول الاتحاد الأوروبى فى موقف لا تحسد عليه، فأكبر دول الاتحاد هى المانيا وفرنسا وإيطاليا ومتاحفها سواء برلين أو اللوفر أو تورين لديها آثار منهوبة أيضا من مصر والعراق واليونان وغيرها. ولذلك فهذه الدول ومتاحفها على رؤوسها بطحات (جمع بطحة) تمنعها من الكلام، والحل الذى قامت به تلك الدول هو أنها جميعا وبدون استثناء «عملت نفسها من بنها»، بمعنى أنها اعتبرت نفسها غير معنية بالأمر.
وأخيرا قد يتساءل البعض عن أهمية الموضوع بالنسبة لنا فى مصر، وهنا أقول له إن مسؤولى المتحف البريطانى وباقى المتاحف العالمية يعلمون جيدًا أن إعادة منحوتات البارثينون إلى اليونان ستفتح عليهم أبواب الجحيم، وسوف تنهال عليهم جميعًا المطالبات من مصر والعراق وسوريا والهند، وكل بلد له حالات مشابهة لقضية آثار البارثينون، تطالب بعودة آثارها المنهوبة.
كل التوفيق للشقيقة اليونان (من حضارات حوض البحر المتوسط) فى قضيتها العادلة من وجهة نظرى الشخصية، وأتمنى أن ترى الأجيال القادمة اليوم الذى تصحو فيه ضمائر المتاحف المغتصبة لآثار وحضارات الشعوب وتعيد الحق إلى أصحابه. وأخيرًا أبث ملكتى الجميلة نفرتيتى شوقى واشتياقى اليها، وأهديها القصيدة الوحيدة التى ألفتها من أجلها بعنوان «ملكتى الجميلة غدًا تعودين».