فى عام ٢٠١٤، أى بعد تَرْكى العمل الحكومى فى مصر، قبلت العمل أستاذًا زائرًا فى جامعة سييرا نيفادا، وذلك لمدة عام كامل. وهذه الجامعة هى واحدة من أهم مائة جامعة فى العالم، تقع فى أجمل بقعة على الأرض؛ على حدود بلدة ليك تاهو بولاية نيفادا الأمريكية. وبمجرد وصولى إلى الجامعة، وجدت استقبالًا حافلًا من جميع أساتذة وطلبة الجامعة. وخلال حفل الاستقبال، ألقى رئيس الجامعة كلمة ترحيب بقدومى، وكذلك تحدث بعض عمداء الجامعة مُرحِّبين بانضمامى إلى جامعتهم، وقد انهالت علىَّ الألقاب والصفات خلال كلماتهم؛ ومنها «آخر سلالة الفراعنة»، «حفيد الفراعنة»، «حارس الآثار»، وغيرها الكثير، وكنت خلال ذلك أحاول أن أمنع نفسى من الضحك وأنا أتخيل أن أحدهم على وشك أن يقول: «زاهى حواس حامى الديار وفارس الفرسان!»، ولا أعرف من أى فيلم قديم أتذكر هذه العبارة. وبمجرد انتهاء حفل الاستقبال، وجدت رئيس الجامعة يخبرنى بأن حاكم ولاية نيفادا بمجرد علمه بقدومى للتدريس والإقامة لمدة عام، قرر تكريمى ومنحى مفتاح ولاية نيفادا. وهكذا ينضم مفتاح ولاية نيفادا إلى عدد كبير من مفاتيح مدن أوروبية وأمريكية وغيرها، والتى نلتها تكريمًا عن أعمالى ومؤلفاتى عن حضارة وآثار الفراعنة. وأبوح بسر، لأول مرة، للقارئ العزيز، وهو أن جزءًا كبيرًا من الحب والتكريم الذى نلته إنما كان تعبيرًا من الدول والشعوب عن حبهم للفراعنة وعشقهم لحضارتها.
كانت المحاضرة الأولى لى بعنوان: «كيف بنى الفراعنة مصر؟.. مقمعة الملك العقرب!». كان عنوان المحاضرة غريبًا وغير مألوف لطلبة الآثار، خاصة أنهم توقعوا منى التركيز على محاضرات الحفائر والاكتشافات حول الأهرامات والمومياوات الملكية. ولكن كانت لدىَّ رغبة شديدة للتعريف بأصول وثوابت الحضارة المصرية القديمة من خلال العودة إلى الجذور الحقيقية لحضارة الفراعنة.
أما عن الملك العقرب، فهو على الرغم من قلة معلوماتنا عنه، فإنه أحد المؤسِّسين الحقيقيين لمصر، كأول دولة فى تاريخ الأرض. وسبب تسميته بالعقرب هو أن اسمه كُتب باستخدام صورة عقرب فقط دون وجود حروف أخرى، فلم يجد العلماء غير تسميته بالعقرب. ولم يكن من الغريب فى تلك الأزمان السحيقة تسمية الرجال بأسماء مثل الثعبان والعقرب والأسد والصقر وغيرها من الأسماء التى تشير إلى قوة بأس ورجاحة عقل ودهاء حامليها. والملك العقرب هو أحد ملوك ما يسمى الأسرة صفر، أى الأسرة الحاكمة التى مهدت لميلاد مصر الموحدة وبدء عصر الأسرات بالأسرة الأولى وملوكها هم فى الحقيقة ورثة الملك العقرب الذى إليه يرجع الفضل فى تأسيس جيش مصرى قاده لتوحيد مصر بشطريها الشمالى والجنوبى. ويبدو أن الملك العقرب قد نجح فى ذلك إلى حد بعيد.
وفى معبد الإله حورس بنخن- الواقعة بين إسنا وإدفو بصعيد مصر، والمعروفة عند الإغريق بهيراكنوبوليس، ويطلق عليها الآن اسم الكوم الأحمر نظرًا لتناثر أكوام من كسر الفخار الأثرى بالمنطقة- عثر الأثرى الإنجليزى جيمس كويبل وزميله فريدريك جرين على مقمعة الملك العقرب أو ما يُعرف أيضًا بـ«دبوس القتال الاحتفالى». وكما يشير الاسم، فإن دبوس القتال- أو المقمعة- كان أحد أهم أسلحة القتال فى مصر القديمة، خاصة العصر المبكر، وهو عبارة عن كتلة حجرية مستديرة أو كمثرية مثبتة فى يد خشبية طويلة لتشبه المطرقة الحديدية. وقد استخدم الفنان المصرى القديم شكل المقمعة لتنفيذ أعمال نحت على سطحها لأغراض فنية أو طقسية مُحولًا المقمعة من وظيفتها كسلاح إلى مقمعة احتفالية لا تُستخدم فى القتال أو الحرب.
كان العثور على مقمعة الملك العقرب داخل ما يُعرف بـ«الخبيئة الرئيسية» بمعبد الإله حورس الصقر من أهم اكتشافات موسم ١٨٩٧- ١٨٩٨، وللأسف الشديد كان العثور على صلاية الملك نعرمر الشهيرة سببًا فى ذهاب مقمعة الملك العقرب إلى متحف أكسفورد بإنجلترا، حيث احتفظت مصر بالصلاية، وأعطت المقمعة إلى المتحف التابعة له البعثة المكتشفة، وفق قانون القسمة الجائر، الذى تسبب فى خروج الكثير من كنوز مصر الأثرية.
صُور الملك العقرب بجسم فارع الطول وبعضلات قوية يرتدى التاج الأبيض، تاج الصعيد، ونقبة قصيرة يزينها ذيل ثور من الخلف كناية عن كون الملك كالثور فى قوته وشدة خصوبته. والغريب أن الملك العقرب لم يُصور وهو ممسك بسلاح يحارب ويقتل أعداءه، ولكنه صُور مُمسكًا بفأس يهم بشق قناة مائية أو ترعة لتوصيل مياه النيل وزراعة أرض جديدة، ما يعنى خيرًا جديدًا لمصر. كما يُصنف منظر الملك العقرب وهو ممسك بالفأس بأنه أول منظر لملك يضع حجر أساس لمشروع زراعى تنموى بالعالم.
إن العقرب ملك محارب، وهو الجد الأول لملوك مصر، مثل نعرمر أو مينا، ومهمته كانت هى الحرب والقتال. ولكن الأمر المثير للدهشة هو أن ملوك مصر الأوائل وقادة جيشها كانوا على وعى بأن واجبهم ليس فقط تأمين وحماية مصر وشعبها ولكن واجبهم هو بناء بلد قوى غنى ينعم بالرخاء. وكان الرخاء بالنسبة لهؤلاء الملوك يعنى الاهتمام بزراعة أرض مصر من خلال شق الترع والقنوات وتنظيم الرى وضمان وصول مياه النيل إلى أكبر قدر من مساحة الأرض الصالحة للزراعة بدلًا من ضياع المياه بلا فائدة عند أحراش الدلتا قبل أن تصب فى البحر المتوسط. كذلك كان تعبيد الطرق وتسهيل الملاحة النهرية لسهولة الاتصال بين مدن وقرى مصر من عوامل النهضة والعمران.
هذه العقيدة الراسخة بأن اليد التى تحارب وتحمل السلاح من أجل حماية مصر وتأمين حدودها هى نفس اليد التى تحمل الفأس لتشق الترع وتزرع الأرض هى نفسها التى لا تزال موجودة ومتأصلة فى الجيش المصرى فى عصرنا الحالى على الرغم من انقضاء أكثر من خمسة آلاف ومائتى سنة منذ أن قام الملك المحارب وقائد الجيش المصرى بحمل فأس وشق ترعة، وهذا هو الأمر المثير فعلًا للدهشة والعجب.
إن جينات المصرى لم تتغير ولم تتبدل؛ ولا يزال الجيش المصرى الذى يحمل السلاح للدفاع عن أمن البلاد هو نفس الجيش الذى يزرع ويبنى ويعمر. وكثيرًا ما نسمع ونقرأ مَن يهاجم جيش مصر متهمًا إياه بالتدخل فى الاقتصاد ومجالات الزراعة واستصلاح الأراضى وتعبيد الطرق وبناء المدن السكنية والصناعية، وكثيرًا ما تمت السخرية من مصانع المكرونة، ومزارع الأسماك، ومحطات تموين السيارات!. والمدهش أن يكون البناء والتعمير تهمة ومسار نقد!، لكن لأن الاتهام دائمًا يأتى من جهة واحدة نعرفها جيدًا، ونعرف فكر أصحابها الفاسد، فنحن فى غنى عن الدفاع عن جيشنا، الذى سيظل يحمى ويؤمِّن مصر ويزرع ويبنى ويعمر.
نعود إلى دبوس قتال الملك العقرب، حيث نرى حفلًا مبهجًا يصاحب ما يقوم به الملك وجنوده من عمل فى شق القناة المائية، وكذلك نرى حملة الأعلام والألوية تسير كما لو كانت متجهة نحو معبد الإله أو إلى مقصورة للعبادة. والدليل الذى يثبت أن ما يقوم به الملك يأتى بعد نجاحه فى حرب التوحيد هو وجود ما يُعرف بطيور الرخيت، وهى رمز لسكان الوجه البحرى، مُعلَّقة من رقابها على صوارى فى الجزء العلوى من المقمعة، كناية عن خضوع الدلتا للملك العقرب، الذى أصبح ملك مصر العليا والسفلى.
استمرت محاضرة كيف بنى الفراعنة مصر من خلال دراسة مقمعة الملك العقرب قرابة الساعتين، وبعدها بدأ النقاش بينى وبين الطلبة، الذين أثارهم هذا الربط بين الماضى والحاضر وكيف يمكن أن نجد فى التاريخ القديم ما يجيب عن أسئلة من واقعنا الحديث. وكان عام ٢٠١٤ عامًا مفصليًّا فى مصر، فيه أُجريت الانتخابات الرئاسية وتولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مقاليد الحكم رسميًّا فى صيف نفس العام ٢٠١٤. وفى ذلك الوقت كانت مصر صامدة فى وجه هجمة شرسة من آلة إعلامية ممولة وموجهة تم الإنفاق عليها ببذخ لتشويه صورة مصر بالخارج. ولكن نجحت سياسة اليد التى تحارب وتؤمن البلاد واليد التى تبنى وتعمر فى إفساد حملة الهجوم على مصر. ولولا شق قناة السويس الجديدة وبناء المدن السكنية الآدمية الآمنة بديلًا عن العشوائيات القاتلة والمدمرة للإنسانية، ولولا علاج مشكلة الكهرباء ونقص مواد الطاقة، ولولا شق الطرق الجديدة وتحديث شبكة المواصلات، ولولا آلاف الأفدنة المستصلحة ومشروع الصوبات الزراعية، ولولا محطات تحلية المياه ولولا مشروعات تطوير البحيرات وتطهيرها ومشروعات الاستزراع السمكى، لكان هناك حديث مختلف تمامًا، ولكنا الآن فى منطقة لا نتمناها حتى لعدونا!، ولكن لأن هناك يدًا تحمى ويدًا تبنى، ستظل مصر آمنة بشعبها وجيشها وجهود مَن بنوا وعمروا هذا البلد قبل خمسة آلاف سنة حين لم تكن هناك سوى مصر وحدها تكتب التاريخ وتبنى الحضارة.