الهوية والأصول في عالم متغير!

الدار البيضاء اليوم  -

الهوية والأصول في عالم متغير

حسين شبكشي
بقلم : حسين شبكشي

في إحدى رحلات العمل مؤخراً التي كانت لحضور أحد الاجتماعات المتخصصة، التقيت فيها بشخص لأول مرة، وذهبنا بعد انقضاء الاجتماع مع الحضور لتناول العشاء، وبينما كنا نختار من قائمة الطعام في المطعم الهندي، لفتت نظري إحدى الوجبات المعروضة، وهي جبنة «البوراتا» الإيطالية المستخلصة من حليب الجاموس الغني بالدسم، فاستغربت وجود هذه الجبنة الإيطالية التي هي من العناصر الأساسية في المطبخ الإيطالي ضمن وجبات يقدمها مطعم هندي، فاقترحت أن نطلبها، وهنا اعترض الشخص الذي معي، موضحاً أنه لا يمكن أن يأكل شيئاً غير أصلي ومهجناً. قلت له: وما هو معيارك للحكم على الشيء بأنه أصلي؟ عجبت ممن لا يزال يبحث عن معتقد الهوية الأصلية والعرق النقي، في عالم متعولم تذاب فيه الحدود، وتندمج فيه الثقافات، وتتطور فيه الهويات بشكل مذهل ومثير.
تأملت في المسألة بشكل أكبر، وخصوصاً أننا كنا في مدينة تمجد مساهمات الجاليات المؤثرة التي كانت جزءاً مهماً في قصة التنمية الناجحة بها. فهناك الأحياء الصينية والهندية والأفريقية التي تعكس تقدير المدينة وحكومتها ودافعي الضرائب لهم جميعاً، ولا يتمالك زوارها سوى الإشادة والتقدير لهذه اللفتة الراقية. إن ما يحدث في بريطانيا مسألة تثير الاهتمام وتحديداً فيما يخص بروز أدوار الجيل الجديد من أبناء المهاجرين القادمين من مستعمرات بريطانيا العظمى حول العالم. فاليوم لم يعد غريباً رؤية نماذج مختلفة منهم وهم يتبوأون مناصب قيادية وتنفيذية في أهم المواقع الحكومية والمؤسسات الاقتصادية والكيانات الأكاديمية الكبرى، وصولاً إلى وجود أحد أبرز المرشحين لقيادة حزب المحافظين، وبالتالي رئاسة الوزراء، من أبناء المهاجرين الهنود. كل ذلك يحدث في بلاد الرجل الأبيض.
قيمة الاستفادة من العقول المهاجرة من حول العالم أدركها بامتياز كثير من دول العالم الجديد، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرازيل، واستغلتها بذكاء لتطوير مجالاتها المختلفة لتكون هذه العقول المهاجرة أحد أهم عناصر التميز وأسباب التفوق. وكان هذا النموذج «المتعدد والمتنوع» هو النقيض تماماً من النموذج العنصري البغيض الذي كانت تنادي به ألمانيا النازية، عندما كانت تنادي وتمارس وتطبق فكرة التفوق العرقي ونقائه مقارنة بالأعراق الأخرى حول العالم، فحاربت وأبادت كل من خالفها من أصحاب الأعراق الأخرى.
ولعل أهم وأقوى من تطرق إلى مفهوم الهوية في عالم جديد ومتغير، وكتب في هذه المسألة المهمة جداً في رواياته ومقالاته، هو الكاتب الفرنسي اللبناني الكبير أمين معلوف، عندما قال: «الولادة هي المجيء إلى العالم، لا إلى هذا البلد أو ذاك، أو هذا البيت أو ذاك». وقال أيضاً: «إن نظرتنا الضيقة هي غالباً التي تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم». وفي كتابات أمين معلوف حقائق مهمة عن واقع الهوية الجديد في عالم متغير ومتبدل مستمد من تجربته الشخصية، وهو الذي ينتمي إلى عائلة لها وجود عميق في بقاع مختلفة حول العالم، انطلاقاً من لبنان مروراً بوجود عظيم في البرازيل وكوبا، إلى الحضور المؤثر في فرنسا وأستراليا على سبيل المثال، وانعكس هذا الثراء والتنوع في أبعاد هويته الأسرية على تكوينه الشخصي وإنتاجه الإبداعي وتطوير آرائه في شتى المسائل والمجالات، من دون استثناء بطبيعة الحال.
ويترك أمين معلوف قارئه، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع الهوية الجديدة في عالم متغير، بسؤال، وهو: إذا كانت الفوائد الجمة والهائلة حلت على شخص واحد كأمين معلوف بسبب تكوين عائلته الكبيرة المميز، فمن الممكن تخيل الصورة في حالة تبني ذلك من قبل دول وبلاد. وعلى أقل تقدير هناك شركات عملاقة في مجالات التقنية الحديثة أدركت تماماً أهمية التنوع والثراء في الثقافات والأفكار والآراء؛ لأن ذلك تحديداً هو الذي سيحفز على الإبداع والتفكير خارج الصندوق.
مفهوم الهوية الجديدة في عالم متغير هو نتاج تراكمي وجمعي لخطابات التسامح التي جاءت بها الأديان، وللحقوق التي اكتسبتها البشرية، وللقوانين التي سُنت لحماية تلك الحقوق، وبالتالي فإن أي تفكير فيه رجوع عن ذلك هو ردة عنصرية أشبه بالسرطان الذي ينهش الجسد السوي، ولا يتركه حتى يدمره.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الهوية والأصول في عالم متغير الهوية والأصول في عالم متغير



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca