لبنان: في حديث الفراغ والامتلاء العونيّين

الدار البيضاء اليوم  -

لبنان في حديث الفراغ والامتلاء العونيّين

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

غالباً ما يُقرن الكلام عن نهاية العهد الحاليّ في لبنان، عهد ميشال عون، بتعبير «الفراغ الرئاسيّ». هذا الوصف ليس دقيقاً بمعنيين اثنين: الأوّل، أنّ العهد المذكور قد ينتهي بفراغين معاً، لا بفراغ واحد: فراغ رئاسيّ وآخر حكوميّ. والحال، وبعد تكرار المحاولات الفاشلة الكثيرة، بات يمكننا القول إنّ العثور على رئيس حكومة يتعايش معه عون، ويقبل به صهره باسيل، أمر يكاد يكون مستحيلاً. حتّى رئيس الحكومة الرثّة نجيب ميقاتي، وهو المعروف بالرخاوة واللزاجة، لن تؤهّله مواصفاته تلك للمهمّة الشاقّة، بل ربّما كان السنّيّ الوحيد الملائم لدور كهذا رئيس الحكومة السابق حسّان دياب.

ذاك أنّ العداء المعلن في البيئة العونيّة لـ«اتّفاق الطائف»، ولصلاحيّات رئاسة الحكومة، ومعه الاهتمام بتأمين مستقبل باسيل الغائم والغامض، يجعلان ميشال عون صاحب الفراغين المتلازمين. إنّه، في تاريخ لبنان الحديث، كاسر الرقم القياسيّ على هذا الصعيد. المعنى الثاني هو أنّ الكلام السائد عن الفراغ الرئاسيّ يترك انطباعين خاطئين: من جهة، أنّنا نعيش «امتلاء» يوفّره عون ويتهدّده فراغ كهذا، ومن جهة أخرى، أنّ السلطة الفعليّة هي فعلاً في يد مؤسّسات ورئاسات منتخبة قد تفرغ. هنا، لا بدّ من إعمال بعض الفرز والتدقيق: صحيح أنّ فراغاً رئاسيّاً وحكوميّاً سوف يكون كارثة أخرى تحلّ بالمواطنين اللبنانيّين وبمؤسّساتهم واقتصادهم وتأمين شؤونهم الحياتيّة، لكنّ ذلك لن يؤثّر إطلاقاً على المكان الوحيد البالغ الامتلاء، أي «حزب الله» وجيشه وسلاحه واقتصاده. هنا، وليس في رئاستي الجمهوريّة والحكومة، تكمن السلطة الفعليّة في مجالات كثيرة تؤثّر بالطبع في حياة المواطنين من دون أن تتأثّر بها.

تقودنا هذه الاستدراكات إلى أنّ نهاية العهد العونيّ الوشيكة تتزامن مع عنصرين ساهم العهد إيّاه في خلق واحدهما، وفي تبرير الثاني وتعزيزه بغطاء الشرعيّة المطلوب: الأوّل، أنّ رئاسة الحكومة يُراد تفريغها من معناها ومن مضمونها، فيما يغدو العمل لإكسابها أيّة فاعليّة سبباً لصراع متطاول قد لا يفضي إلى حلّ أو تسوية، لكنّه بالتأكيد سيكون مصدراً لمزيد من تسميم العلاقات الطائفيّة بين اللبنانيّين. أمّا الثاني، فإنّ سلاح «حزب الله» استحوذ، في ظلّ عون، على مزيد من الشرعيّة العمليّة التي تنازلت له عنها الشرعيّة الدستوريّة المفترضة.

فإذا تحدّثنا بلغة الطوائف وحساباتها، وهو ما لا يمكن تجنّبه في التركيبة اللبنانيّة، قلنا إنّ العونيّة ساهمت في إطلاق الحدّ الأقصى الشيعيّ (الذي تحالفه وتطلب دعمه) وفي كبت الحدّ الأدنى السنّيّ (الذي تكرهه). بهذا المعنى، مثّل عهدها مأسسة لتفاوت القوّة بين الطوائف وتوسيعاً لذاك التفاوت. وهذا، بدوره، لا ينفصل عن مبدأ «الرئاسة (المسيحيّة) القويّة» الذي رفعه العونيّون إلى مصاف الشعار المقدّس. ذاك أنّ تلك القوّة المزعومة لا تعني، في ظلّ وجود السلاح، سوى قوّة على من لا سلاح لديه. أمّا من لديه سلاح فيُعطى ويُزاد. وإلاّ فكيف، وعلى ماذا، تكون القوّة قويّة إن لم يكن على السلاح؟

إنّ هذا النهج هو بذاته وصفة ناجعة لمزيد من الخراب الأهليّ، إن لم يكن لحرب أهليّة قد تستكمل شروطها ذات يوم. لكنّ «إنجازات» العهد تبقى ناقصة من دون الإشارة إلى الأزمة الاقتصاديّة القاتلة، وتفجير مرفأ بيروت، وتردّي علاقة لبنان بالعرب وبالعالم، وهذا بعدما أطلقت العونيّة على الجبهة المسيحيّة تحوّلاً بارزاً، لم تحدّ من آثاره إلاّ الانتكاسة التي أصيبت بها في الانتخابات النيابيّة الأخيرة. ذاك أنّه مع نقل شطر من المسيحيّين إلى صفّ الممانعة ونظام الأسد، لم تعد هذه البيئة تملك ما تضخّه سوى الكراهيّة والعنصريّة والالتحاق بالأقوياء ضدّ الضعفاء، ناهيك عن سخافات كسخافات الوزيرين اللذين «قصفا» إسرائيل بالحجارة حين كانت تقصف مطاري سوريّا بالطائرات.

لقد نجح هذا العهد العونيّ في شيء واحد هو أنّه علّمنا كيف يكون الكليشيه حقيقيّاً. فكلّ الكلام الإنشائيّ المبالِغ عن الفشل الكارثيّ الذي قد يوصف به وضع من الأوضاع، لمسناه باليد ورأيناه بأمّ العين، وبتنا نعرف كيف يكون السوء مطلقاً. والحال أنّ العونيّة، وبعد سنوات ستّ لئيمة، إنّما تتبدّى حالة صفريّة محضة: لا إنجاز. لا قوّة. لا هيبة. لا شيء على الإطلاق. إنّها بالطبع لحظة عابرة في التاريخ السياسيّ للبنان، لكنّها من الشرّ بحيث تودي بكلّ شيء آخر. من يدري، فقد يكون ما نشهده عقاباً على ماضٍ سيّئ، لكنّه أيضاً قد يشكّل مدخلاً إلى مستقبل أسوأ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان في حديث الفراغ والامتلاء العونيّين لبنان في حديث الفراغ والامتلاء العونيّين



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 14:23 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عبدالرحيم الوزاني يطالب لقجع بجلب مقر "الكاف" إلى المغرب

GMT 19:03 2019 الجمعة ,22 آذار/ مارس

فيلم «نائب».. عبقرية الكوميديا السوداء

GMT 21:54 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

أفضل زيوت تدليك الجسم و المساج

GMT 09:41 2017 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

عماد متعب ويارا نعوم يكشفان أسرار حياتهما في "كل يوم"

GMT 21:47 2017 الجمعة ,07 إبريل / نيسان

إدارة السجون تكشف وضع على عراس في "تيفلت 2"

GMT 09:56 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أهم وأبرز إهتمامات الصحف الجزائرية الصادرة الأربعاء

GMT 14:26 2017 الإثنين ,12 حزيران / يونيو

التدليك الحل السحري للتخلص من المشكلات الصحية

GMT 02:23 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

كولم كيليهر يؤكد أنّ المملكة السعودية سوق جاذبة للاستثمار

GMT 08:30 2016 الثلاثاء ,27 أيلول / سبتمبر

حملة أمنية على محلات درب عمر بسبب الدمى الجنسية

GMT 00:14 2015 السبت ,28 شباط / فبراير

استخدمي طرقًا بسيطة للحصول على فضيات مميزة

GMT 15:48 2016 السبت ,02 إبريل / نيسان

الزواج المبكر فى مصر يتراوح بين 13-15%
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca