عن التدخّلات الكريمة والتدخّلات اللئيمة

الدار البيضاء اليوم  -

عن التدخّلات الكريمة والتدخّلات اللئيمة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

هناك حالات من التدخّل الكريم الذي قد يمارسه بلد في بلد آخر. هذه أمثلة عن بعض تلك الحالات:
- أن يمارس نظام الدولة (أ) أعمالاً إباديّة ضدّ شعبه، فتتدخّل الدولة (ب) لوقفها (عراق صدّام حسين، سوريّا الأسد، ليبيا القذّافي...).
- أن تمارس جماعة أهليّة مسلّحة في البلد (أ) أعمالاً إباديّة ضدّ جماعة أهليّة أضعف منها (الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، الصرب والمسلمون في البوسنة، طالبان في أفغانستان، «داعش» والإيزيديّون في العراق...).
- أن يمارس نظام الدولة (أ) تجويع شعبه (كوريا الشماليّة...).
- أن يشكّل نظام الدولة (أ) تهديداً لجيرانه، وأن يغزوها ويحتلّها (هتلر في تشيكوسلوفاكيا وباقي أوروبا، صدّام حسين في الكويت...).
- أن يستولي على السلطة في الدولة (أ) نظام عسكريّ أو قَبَليّ تتجمّع القرائن على رفض أغلبيّة السكّان له (أمثلة لا تُحصى).
هذه الحالات يغطّي بعضَها مبدأُ «التدخّل الإنسانيّ»، لكنّ التدخّل فيها لا يحظى بالإجماع عليه بطبيعة الحال، كما أنّه لا يحصل إلاّ في القليل من حالاته المستحقّة. مع هذا فحصوله يبقى قابلاً للدفاع عنه ولتبريره.
في المقابل، فإنّ ما لا يمكن الدفاع عنه إطلاقاً هو نمطٌ آخر من التدخّل، أو التهديد بالتدخّل، سببه التالي: إنّ شعب الدولة (أ) اتّخذ بأكثريّته، وغالباً من خلال برلمانه، قراراً يتعلّق بمصيره وبطريقة حياته وبسياسته الخارجيّة، لكنّ قراره هذا لا يعجب الدولة (ب) التي تعتبره خطراً عليها.
سياسة روسيا في أوكرانيا اليوم، والمعزّزة بحشد مائة ألف جنديّ على الحدود، مَثلٌ صارخ. تهديدات الصين لتايوان، حيث ترفض الأولى استقلال الثانية عنها، مَثل آخر. لدينا في المشرق العربيّ مثل شهير هو حين حرمت سوريّا الأسد لبنانَ من أن تكون له سياسة خارجيّة مستقلّة باسم «وحدة المسار والمصير»، فحين أراد أن ينتزع هذا الحقّ كان الاغتيال بالمرصاد لسياسيّيه وصحافيّيه وكتّابه.
إبّان الحرب الباردة كان هذا النوع من التدخّل، المباشر مرّةً والمداور عبر أدوات وسيطة مرّات، مشتركاً بين الجبّارين: الاتّحاد السوفياتيّ سحق، بجيشه وبقوّات حلف وارسو، هنغاريا في 1956 وتشيكوسلوفاكيا السابقة في 1968 وكاد يسحق بولندا في 1981. الولايات المتّحدة لم تزجّ جيشها في سحق بلدان أخرى، لكنّها دعمت انقلابات عسكريّة على أنظمة ديمقراطيّة منتَخبة. أبرز تلك الحالات كانت في إيران 1953 ضدّ حكومة محمّد مصدّق، وفي غواتيمالا 1954 ضدّ حكومة جاكوبو أربنز، وفي تشيلي 1973 ضدّ حكومة سيلفادور ألّيندي.
الحجّة – المعلنة أو الضمنيّة – على ضفّتي التدخّل كانت من طبيعة أمنيّة: إنّ النظام الذي نسحقه يقوّي الخصم على حسابنا. أمّا الخصم فهو المعسكر الأطلسيّ في نظر موسكو، والمعسكر السوفياتيّ في نظر واشنطن.
بعد الحرب الباردة وصعود أجندة الديمقراطيّة على نطاق كونيّ، لم تعد واشنطن تمارس هذه التدخّلات ضدّ أنظمة ديمقراطيّة. حربها الأولى في العراق (غير الديمقراطيّ يومذاك) أدّت إلى تحرير الكويت من احتلاله. حربها الثانية اضطُرّت لتبريرها إلى كذبة سلاح الدمار الشامل.
اليوم بات التدخّل اللئيم هذا يرتبط بأنظمة معيّنة لا تحتاج إلى أيّة كذبة كي تبرّر ما تفعل. إنّها تجاهر بفعلها غير هيّابة ولا متردّدة: الدفاع عن أمني الذاتيّ ضدّ إرادة غيري وحرّيّاته.
هذه الأنظمة تجمع بينها مواصفات محدّدة ربّما كان أبرزها:
- أنّ النظام استبداديّ، وإن اعتمد مظهراً ديمقراطيّاً شكليّاً في بعض الحالات، كما في روسيا بوتين.
- أنّه في الغالب قوميّ وشعبويّ يقف على رأسه زعيم معبود أو نصف معبود.
- أنّه يغلّب الحجّة الأمنيّة العارية على سواها من الحجج. ما من اعتبار لأيّ سبب آخر بما في ذلك إرادة السكّان الذين يتمّ التدخّل في بلدهم. وإذا كان الكثير من تلك البلدان شيوعيّاً في السابق، أي غير آيديولوجيّ اليوم، تبقى إيران، بين البلدان التدخّليّة أكثرها استخداماً لذرائع آيديولوجيّة، علماً بأنّها لا تنجح في حجب نزعة التوسّع.
- وأنّ ثمّة أسئلة وجوديّة تحيط بمستقبل النظام التدخّليّ وقابليّته للبقاء. حتّى الصين، وهي وحدها من بين البلدان التدخّليّة صاعدة وغنيّة ومتماسكة، ليست بمنأى عن تلك الأسئلة على مدى أبعد.
لقد باتت ظاهرة التدخّل اللئيم من الظواهر التي تلازم عالمنا اليوم، وأغلب الظنّ أنّ ضعف الإرادة الدوليّة ممثّلةً بالأنظمة الديمقراطيّة، ومن ثمّ تعثّر التدخّل الكريم وتردّده، هما ما يجعل التدخّل اللئيم على هذه الدرجة من الانتشار والسطوع.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن التدخّلات الكريمة والتدخّلات اللئيمة عن التدخّلات الكريمة والتدخّلات اللئيمة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca