الأصل فلسطين والاسم إسرائيل

الدار البيضاء اليوم  -

الأصل فلسطين والاسم إسرائيل

بكر عويضة
بكر عويضة

الاثنين الماضي، كان آخر يوم أمامي لتنفيذ التزام قانوني يتعلق بالإجابة عن أسئلة إحصاء السكان البريطاني لعام 2021. في التعداد السابق، سنة 2011، وصلتني الاستمارة ورقياً، ولم يك صعباً التعامل بالقلم مع ما تضمنت من استفسارات. هذه المرة، لم يكن هناك مفر من الإجابة إلكترونياً. إذ ذاك هو الحال، دخلت موقع الإحصاء ورحتُ أجيب عن الأسئلة بلا كثير صعوبة تُذكر، حتى فوجئت بمطالبتي أن أذكر الاسم الحالي لمكان ولادتي. تأملت الأمر؛ أليس الاسم هو إسرائيل؟ بلى. حسناً، ضع الكلمة، إذنْ، في المستطيل الذي يطل من الشاشة. ليكن، بدأت بالحرف الأول «I» فالثاني «S» وإذا بالكومبيوتر يكمل الاسم بلا انتظار مني «ISRAEL». لم أرتح للأمر. أحسست بنَفَس ثقيل يرتفع وينزل داخل صدري، كأن شبحاً يقف خلفي يصرّ على أن أخضع لما هو واقع، فسواء رضيت أمْ رفضت، ليس مهماً، في نظر واضع الاستمارة. لكن النَفَس المقاوِم داخل وعيي أصر على أن أثبّت كلمة فلسطين. بدأت بأول حروفها «P»، ثم ثانيها «A»، فقفز الشبح خلف الشاشة وأكمل «PAKISTAN». ضحكت، قهراً، ليس لأن لديّ إحساس تنافر مع باكستان، وأهلها، إطلاقاً، بل لمجرد أن الكومبيوتر يرفض الإقرار باسم بلدي الأصل، ولا يعطيني مجرد حق الاختيار بينه وبين الاسم الحالي للدولة القائمة على معظم أرضه. ما الحل؟ فجأة أطل آخر سهم في جعبتي، كما يتجلى وحي القصيد، لقرّاض الشعر، ومبدعاته - بالتأكيد ليس لي - بلا سابق موعد؛ فقلت أضع اسم المدينة، بئر السبع، ثم بعد الفاصلة، فلسطين، فأرى ما سيحصل. انتظرت رد الفعل، فأتى كما تمنيت، لم يعترض «السيستم»، بل أعطاني حق تثبيت مكان ولادتي التابع لوطني، كما كان يُسمى يوم وُلدتُ.

على الأغلب أن هكذا إشكالاً لم يواجه معظم حاملي جنسية هذا البلد، ممن شاركوا، قانونياً، في تعداد السكان. بالتأكيد، ليس أمام العربي المغترب في بريطانيا، أياً كان البلد الأصل، أي مشكلة عند الإجابة عن سؤال يتعلق بالاسم الحالي للبلد الذي جاء منه، فاسم الوطن لم يزل هو نفسه، حتى لو وُجِد في أجزاء منه غريبٌ يحتل بعضاً من أرضه، وحتى لو نعق بكثير من مدنه أو قراه بوم الخراب، وحامت في الأجواء منه غربان الدمار؛ يبقى العراق، مثلاً، هو العراق، وليبيا أيضاً، وكذلك سوريا. وحده الفلسطيني، سوف يواجه دائماً معضلة الإقرار بأن اسم بلده الحالي، ليس هو الاسم الأصل الذي عرفه آباؤه، ومن قبلهم أجداده، يوم ميلاده هو، أو مولدهم جميعاً. قد يبدو المشكل هيّناً لأغلب الناس، إنما مَن قال إن ألم الوجع يحس به غيرك، تماماً، كما يمس مسام الجلد منك؟ غير ممكن.

حكايتي هذه، مع ملء بيانات الإحصاء السكاني، فتحت صفحة ذات أهمية بين صفحات أرشيف الذاكرة. مررتُ بتجربة تشبهها، إنما أكثر واقعية، وبالتالي تظل أهمّ من حيث دلالاتها. حدث ذلك بعد أيام من توقيع اتفاق أوسلو (13-9-1993) عندما فاجأني الأستاذ عثمان العمير، رئيس تحرير «الشرق الأوسط» آنذاك، بقرار إيفادي إلى قطاع غزة، للكتابة من هناك عما بعد الاتفاق. بالطبع، كان الوصول إلى غزة يتطلب النزول أولاً في مطار تل أبيب. ليس هنا مجال الحديث عما رافقني من أحاسيس منذ ركوب الطائرة في هيثرو، ثم تغييرها في باريس، حتى الغرق في أمواج ما تلألأ من أضواء ساحل حيفا لحظات آخر الليل. المساحة ذاتها ليست تتسع لما يتطلب آلاف الكلمات. لذا أختصر؛ بعد طول انتظار في الطابور، وجدتني أمام ضابطة أمن شابة تسألني: هل هذه أول زيارة لك لإسرائيل؟ أجبت نعم. ذهبت ثم عادت رفقة ضابطة أيضاً لكنها أكبر سناً. سألت السؤال ذاته، فأجبت الجواب نفسه. ذهبتا؛ ثم عادتا ومعهما ضابط يكبرهما عمراً، وخبرة بالطبع. سأل هو أيضاً، فيما يحدق في جواز السفر البريطاني، لكنه أضاف: أرجوك أعطنا الجواب الصحيح. قلت: هو بالضبط ما فعلت. بدا متوتراً، إذ لفت نظري إلى أن مسقط رأسي هو بئر السبع. فقلت: نعم، صحيح، لكنها كانت حتى ميلادي ثم هجرتي مع والديّ إلى غزة تتبع فلسطين. بالمناسبة؛ دعوني أسألكم: متى أعلنتم دولة إسرائيل؟ أجابوني معاً، 15 مايو 1948. قلت: إذن؟ أجابوا: معذرة، نعم جوابك سليم. ثم بدأ مسلسل تحقيق طويل، لعلي أرجع إليه مستقبلاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأصل فلسطين والاسم إسرائيل الأصل فلسطين والاسم إسرائيل



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca