حرب أوكرانيا مستمرة؟!

الدار البيضاء اليوم  -

حرب أوكرانيا مستمرة

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

بعد أكثر من ستة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية «الخاصة» فإن حرب أوكرانيا لا تزال مستمرة. لم يكن ذلك متوقعا عند نقطة البدء فى ٢٤ فبراير الماضى عندما انطلقت القوات الروسية إلى الأراضى الأوكرانية. كانت الأزمة بين البلدين قد استعرت قبل ذلك بأسابيع عندما بدأت روسيا الاتحادية فى حشد قواتها، وعندما بدأ حلف الأطلنطى فى إصدار تهديداته بالعقاب الاقتصادي، وظهرت الولايات المتحدة واثقة تماما بأن نية موسكو هى الحرب التى نشرت خططها على العالم كما لو كانت تقرأ فى الكف الروسي. بدا الأمر كله غريبا وخياليا أكثر منه واقعا سوف يحدث بعد أيام أن تنشر خطط الحرب قبل بدايتها؛ وبدت التطورات أشبه بالهلوسة التاريخية عندما بدأ الرئيس الروسى فى نشر مرارات عظمى ارتبطت بانهيار الاتحاد السوفيتى وكيف تعرضت روسيا لإذلال مخيف ونقض مرعب للوعود الغربية فى لحظة انهيار الحرب الباردة. وكما لو أن التاريخ كان عليه أن يكون حاضرا استدعت القيادة الروسية التاريخ القيصرى الروسى وعلاقاته بأوكرانيا التى جعلت «كييف» أكثر قربا للعاصمة الروسية من قرابتها للمعسكر الغربي. وسط ذلك كله أصدرت روسيا والصين وثيقة فى ٤ فبراير تدعو إلى مراجعة النظام العالمى كله بحيث يتخلص من العولمة والاحتكار الأمريكى لقيادة العالم وسواء كان ذلك بالوجود العسكرى أو التجارة أو العملة الأمريكية. وكانت واشنطن قبل ذلك قد بدأت حربها الأيديولوجية بتقسيم العالم بين «الديمقراطيين» و«السلطويين» فى نوع من الوصاية السياسية والأخلاقية العالمية التى تنزع الشرعية السياسية عن النظم السياسية فى أكثر من نصف العالم. كل هذا الضجيج دفع كثيرا من المراقبين – وكاتب السطور منهم – ليس إلى الذعر من قرب ساعة حرب أوروبية جديدة، وإنما أخذ الموضوع على أنه لحظة من لحظات التوتر التى تكون أصولا للتفاوض المقبل. كانت الاتصالات لا تزال مستمرة بين الجانبين، وتطوع كثيرون للوساطة حتى ولو لم يدعهم أحد إلى ذلك؛ وكانت أكثر الحجج المطروحة لنفى الحرب هى أن هناك قدرا هائلا من الاعتماد المتبادل بين روسيا والغرب فى مجالات الطاقة والتكنولوجيا والغذاء تجعل الحرب مستحيلة.

استندت الحجج إلى نظرية باتت سائدة فى العلاقات الدولية منذ أصدر جوزيف ناى وروبرت كوهين كتابهما عن «القوة والاعتماد المتبادل Power & Interdependence» والذى أكد استحالة الحرب بين كندا والولايات المتحدة، وكذلك فرنسا وألمانيا، لأن الاعتماد المتبادل بينهما يجعل الحرب ضارة بكلا الطرفين. قامت الحرب وثبت بالدليل القاطع أن نظرية الاعتماد المتبادل تحتاج إلى إعادة نظر، وأن «الجغرافيا السياسية» مع «الهوية الوطنية» بأبعادها التاريخية ذات الذكريات البعيدة يمكنها تقديم وجبة كاملة لحرب كلها نار ولهب. اللافت للنظر كان تأثير ذلك على العلاقات الغربية الصينية التى رغم المواقف المعادية الأمريكية تجاه الصين سواء فى عهد «ترامب» أو «بايدن»؛ فإنها أشهرت حالة كثيفة من الاعتماد المتبادل فى مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا وقضايا الأوبئة والاحتباس الحراري. وعندما نشبت حرب أوكرانيا على أي حال فى قدرها الموعود، إذا بقضية «تايوان» تبرز على السطح، ومع زيارة السيدة «بلوسي» رئيسة مجلس النواب الأمريكى إلى «تايبيه»، إذا بالصين تقوم بمحاكاة عسكرية لعملية غزو تايوان بينما استمرت فى نمط تصويتها المحايد داخل مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت كما درج عليه الحال منذ بداية الأزمة والحرب. اختبار النظرية على المستوى العالمى ظهر فى أزمات للطاقة والغذاء التى بدأت على الساحة الأوروبية ثم راحت تمتد دوائرها حتى شملت العالم أجمع؛ وكانت من العمق بحيث أن محاولات الحصول على صفقات استثنائية للقمح أو للنفط لم تكن أكثر من جمل اعتراضية على سياق لا يقطع إلا بانتصار طرف فى ميدان القتال.

بعد ستة أشهر من الحرب فإنها من ناحية الخسائر على الأقل فإن الخسارة الأوكرانية فادحة. ولكن من الناحية الإستراتيجية فإنه يمثل نوعا من التعادل فلا حققت روسيا أهدافها الإستراتيجية الأولى (احتلال كييف وتغيير النظام السياسي)، ولا تمكنت من تحقيق أهدافها الثانية بضم الشرق والجنوب وعزل أوكرانيا عن البحر الأسود؛ ولا تمكنت أوكرانيا من تحرير التراب الأوكرانى بعد أن احتلت روسيا مناطق شاملة لإقليم «الدونباس». روسيا بدت بعد نصف عام من القتال قادرة على مقاومة المقاطعة الاقتصادية، فلديها فى أراضيها الشاسعة ما يكفى من الموارد لاستمرار القتال؛ أما أوكرانيا وبعد الدمار الذى جرى باتت مطمئنة إلى أن يوم التعمير والبناء قادم، وأن المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية تكفيها وزيادة لحرب استنزاف طويلة الأمد. حتى وقت كتابة هذا المقال لم تكن هناك إشارة واحدة على ملل أى من الطرفين من استمرار القتال.

مع هذا القدر من التاريخ نصل إلى بقية العالم وفى المقدمة منه مصر؛ فالضرر الاقتصادى فضلا عن أنه جاء مفاجأة وفى غير موعد وبعد أزمة صحية عالمية، فإن آثاره ضغطت بقوة على المسيرة المصرية. وإذا كانت مصر قد قاومت الإرهاب و«الجائحة» وفقا لقاعدة الاستمرار فى البناء كما لو أنه لا يوجد لا إرهاب ولا بلاء؛ ومقاومة العنف والوباء كما لو أن المشروع الوطنى المصرى ليس قائما؛ فإن ما صدق على كليهما سوف يصدق على الحرب الأوكرانية حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. وكما فعلنا من قبل فى كل أزمة فإن البيت لابد له أن يكون متوائما مع اللحظة فى التعبئة والحشد للموارد والعقول وفى خدمة إستراتيجية شاملة، وهذه المرة لابد وأن تكون أكثر وضوحا. التعاون الإقليمى الخماسى الذى ظهر فى قمة العلمين، وجرى قبله فى جدة فى قمة تساعية، يشير إلى أن “إقليمية جديدة” تدفع الضرر وتجلب الفائدة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حرب أوكرانيا مستمرة حرب أوكرانيا مستمرة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:15 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 16:52 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تحرم الأهلي من رامي ربيعة في مباراة الإسماعيلي

GMT 23:44 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شمال الأطلنطي يحسم بطولة كأس الجامعات القطرية للرجال

GMT 15:27 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

التصميم المميز للزجاجة والروح الأنثوي سر الفخامة

GMT 08:49 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أليساندرو سارتوري يسرق الأنظار إلى "زينيا" بابتكاراته

GMT 12:55 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة منمبا في زنجبار تتمتع بمناظر طبيعية نادرة ورومانسية

GMT 04:30 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الإبلاغ عن العنف الجنسي يعصف بحياة السيدات في الهند

GMT 02:35 2017 الجمعة ,05 أيار / مايو

سيارة فيراري "275 غب" 1966 معروضة للبيع

GMT 05:29 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين تفتتح أفخم فندق سبع نجوم بتكلفة 515 مليون دولار

GMT 02:01 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 خطوات مميّزة للحصول على درجة علمية عبر الإنترنت
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca