تأملات صيفية متفائلة

الدار البيضاء اليوم  -

تأملات صيفية متفائلة

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

أعلم أن الحديث عن التفاؤل هذه الأيام ليس من الأفكار الحصيفة، وفى وقت ارتفعت فيه معدلات التضخم عالميًّا، وباتت فيه سلاسل الإمداد غير سلسة، فإن التشاؤم له أسباب ومشاهد.

«الجائحة»- الكورونا التى لا تتوقف- والحرب الأوكرانية، التى لا تبدو لها نهاية، تبثان البؤس واليأس فى النفس السوِيّة. ومع ذلك فإن هناك من المعلومات والمعرفة بعالمنا ما يقضى بأن العالم على الأقل ليس حاله بهذا السوء، بل يوجد مع كل الأخبار السيئة الكثير من الأنباء التى تقول إن ما هو قادم لن يكون فقط أقل سوءًا، وإنما يوجد ما يدعو إلى أننا سوف نكون أفضل حالًا.

لفت نظرى مقال فى الموقع الإلكترونى «فوكس VOX» بعنوان يتساءل: «لماذا الكوارث التى تزداد قسوة تقتل عددًا قليلًا من البشر؟».

المقال الذى كتبه «أومير إرفان»، فى ١٠ يوليو الجارى، يعتمد فى معلوماته على آخر تقارير اللجنة الحكومية الأمريكية للتعامل مع ظاهرة «التغير المناخى»، والتى تقول بوضوح يعتمد على المعلومات والأرقام إن الظواهر المناخية من الحرارة العالية والفيضانات والحرائق، وكلها كوارث مُميتة، زاد عددها خمس مرات خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ورغم ذلك، فإن عدد الموتى منها قلَّ بنسبة الثلثين.

مثل ذلك يمثل إنجازًا كبيرًا بالنسبة للعاملين فى مواجهة هذه المصائب، ويجعلها أكبر قصص النجاح الإنسانى فى التاريخ المعاصر. المقال لا يقول شيئًا عن «الجائحة»، ولكن بمعيار المقارنة بعد ثلاث سنوات من الوباء فإن عدد الضحايا فيه أقل كثيرًا مما حدث فى الإنفلونزا الإسبانية قبل قرن من الزمان، وفى كل الأحوال لم يحدث تراجع سكانى كذلك الذى حدث بعد نوبات الطاعون فى أوروبا خلال العصور الوسطى.

.. ولمَن لا يعلم فإنه قبل أن ينقضى هذا العام فإن عدد سكان الأرض سوف يتجاوز ثمانية مليارات نسمة، وهى حالة كانت تكفى لظهور أفكار «مالثوس»، التى تقول إن الكوارث ليست كارثية بالضرورة لأن فضيلتها هى إعادة التوازن الديمجرافى للكرة الأرضية مرة أخرى.

والحقيقة هى أن بلاد الله واسعة للغاية، وخلقه كثيرون، ومَن يقل لك إن الأرض قد ازدحمت فلا تصدقه لأن الذى علّم الإنسان ما لم يعلم أعطاه القدرة على أن يجعل من مساحات صغيرة فيها ما يكفى فوق الأرض وتحتها ما يجعلها تضم وتستوعب جماعات كثيرة.

وفى واحدة من الدراسات، التى صادفتها قبل سنوات قليلة، وجدت أنه من الممكن للإنسانية كلها، أى قرابة سبعة مليارات نسمة وقتذاك، أن يعيشوا فى ولاية تكساس الأمريكية وحدها. الفكرة هنا أن المهم هو أن التنظيم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى يكون من الفاعلية والبساطة بحيث يستوعب وينظم حياة الناس بطريقة تجعلهم يستغلون المساحات بقدرة فائقة.

«النانو» تكنولوجى جاءت حتى تُصغر الأشياء وتجعلها أكثر بساطة، وفى يوم من الأيام كان أول كمبيوتر يحتل عمارة كاملة، وعندما تم وضع نفس طاقة الكمبيوتر فى حجرة واحدة قبل انطلاق سفينة الفضاء أبوللو ١٣، فى مطلع السبعينيات، كان ذلك معجزة كاملة.

تعالَ الآن وراجع أحجام الكمبيوتر الشخصى، أو «الموبايل»، الذى يمكنه حمل معلومات كانت فى السابق تحتاج مدينة كاملة من الأرشيف. تَمَعّن فى تليفونك المحمول، الذى تستطيع أن تحمله وتتجول به حول العالم ما شاء لك التجول، بينما تستطيع أن تشاهد أحباءك، وتتابع أخبار شركتك من خلال شبكة «سكايب» أو «زووم» بالصوت والصورة والإنفوجرافيك.

وبالمناسبة، فإن كل هذه النظرة المتفائلة تنطبق على مصر، حيث إن «الجائحة» لم تتسبب فى ارتفاع معدل الوفيات فى مصر بصورة ملحوظة، ويُحسب ذلك لجهود الحكومة والقطاع الصحى، ولتعلم الجماهير أن تكون أكثر وعيًا ونظافة، ربما ليس بالقدر الذى يطلبه الكثيرون منّا، وإنما لكى نفهم ونقدر حقيقة ما جرى للمصريين. وحتى لا يخطئ أحد فى فهم ما نود ذكره، فإنه لا توجد دعوة هنا إلى التقليل من أهمية الزيادة السكانية، وإنما هى دعوة إلى فهمها بشكل أفضل.

فى أرقام أخيرة للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، فإن شعب مصر شابّ تمامًا، ومَن هم فوق سن الخامسة والستين لا يزيدون على ٤٪ من السكان، وهو ما يجعل القضية تنتقل إلى مستويات أخرى من التعليم وفهم العلاقة بين الشريحة العمرية والوضع الاقتصادى والمكانة الاجتماعية، فالمُلاحَظ هو أن الواقعين فى الطبقة الوسطى المصرية، وتتكون الأسرة فيهم من أربعة أفراد، يشكلون فقط ٧.٥٪ من الفقراء.

مَن لديهم مواليد أكثر من ذلك يشكلون أكثر من ٨١٪. على هذا الشكل فإن قضية الزيادة السكانية تصبح واقعة بشكل كافٍ فى زاوية التنمية المصرية وتخريج الطبقة العاملة من الفقر إلى الستر، بالعلم والتعليم والمشاركة فى زيادة الإنتاجية المصرية.

الانتشار السكانى فى المعمور المصرى وبراحه يقلل من الزيادة السكانية، التى تأتى فى معظمها من المناطق المزدحمة والأكثر فقرًا، وغالبيتها واقعة فى الوادى الضيق. هنا تحديدًا يبدأ الواقع المصرى الجديد فى الانتشار من النهر إلى البحر بمدن جديدة وذكية؛ وما بقى فقط هو متى ينتقل السكان، وكيف؟.

البساطة والتبسيط كانا دائمًا من أسرار التقدم الكبرى، ويحكى العلماء دائمًا كيف أنهم عندما يكتشفون شيئًا ينبهرون لأنهم لا يعرفون لماذا لم تكن هذه الفكرة الجديدة أول ما خطر ببالهم نظرًا لبساطتها المذهلة. فى هذه الأيام تتكرر المسألة مرة أخرى فى مصر والعالم أيضًا، حيث الإنجازات الكبرى والتقدم التكنولوجى المذهل، وكل ذلك واقع بسهولة فى محيط النظر البشرى.

ومع ذلك، فإن التشاؤم يكون قائمًا لأن الحياة أصبحت أكثر تعقيدًا لأننا قمنا بإصلاحات كثيرة، ليس من بينها النظام الإدارى للدولة، التى تعلم بيروقراطيتها كيف تلتف حول الثورة الرقمية، ولكنها لا تقدم الكثير فى مجال ممارسة الأعمال مهما كانت توجهات الدولة والقيادة السياسية عن دور جديد للقطاع الخاص.

وفى مطلع القرن الحالى بلغ عدد القوانين المصرية ٦٨ ألف قانون، وعدد لا متناهٍ من اللوائح والقواعد والمراسيم. وفى الوقت الراهن فإن العمل الأساسى للمؤسسات التشريعية هو تعديل القوانين القائمة بتعديلات جديدة لا تجعلها فى الواقع أكثر بساطة، بينما ما نحتاجه هو قوانين بسيطة تركيزها الأساسى على «مقاصد القانون»، كما بات يعرفها العالم وليس كما نعرفها نحن وسطية اشتراكية ورأسمالية وما بينهما «خمسون ظلًّا من الرماديات».

قانون العمل فى معظم العالم يقوم لغرضين: التشغيل والإنتاج، وكيف نزيد فرص العمل ونحقق الزيادة الإنتاجية التى تزيد من الموارد القومية. القضية الأساسية هنا علمية فى جوهرها تربط ما بين القانون وتحقيق مقاصده؛ فإذا كان «تجديد الفكر الدينى» يقوم على الوفاء بمقاصد الشريعة؛ فإن «تجديد الفكر المدنى» يقوم على تحقيق مقاصد القوانين.

المسألة بسيطة كما نرى، وهى تكريس الجهود تجاه مطالب العصر، وفى يوم من أيام مصر العزيزة كان شائعًا تعبير «الإدارة بالأهداف»، ووقتها لم تتحقق الأهداف، ولا كان هناك ما يؤكد الإدارة. الآن آن أوان الرحلة من التعقيد إلى التبسيط.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات صيفية متفائلة تأملات صيفية متفائلة



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:58 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 11:29 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

اختبار تنفس بسيط يكشف سرطان المعدة

GMT 05:37 2017 الأربعاء ,20 أيلول / سبتمبر

سكوتي نيل هيوز ترفع دعوى قضائية ضد "فوكس نيوز"

GMT 07:17 2017 الخميس ,18 أيار / مايو

طريقة تحضير وجبة برياني الدجاج من لبنان

GMT 21:25 2018 الخميس ,26 تموز / يوليو

أجمل شواطئ كرواتيا لقضاء صيف رائع

GMT 13:09 2018 الثلاثاء ,22 أيار / مايو

منظمو رولان جاروس يوجهون صدمة لسيرينا وليامز

GMT 12:34 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

مداهمة معمل سري يحتوي على لحوم فاسدة في مراكش

GMT 09:02 2018 الأحد ,15 إبريل / نيسان

المصرف الألماني يُخزن 3.374 طن من سبائك الذهب

GMT 09:00 2018 الجمعة ,23 آذار/ مارس

كيف تستخدمين اللون الأحمر في ديكور منزلك
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca