الحرب بوسائل أخرى!

الدار البيضاء اليوم  -

الحرب بوسائل أخرى

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

وسط أمور كثيرة يحتار فيها القارئ عند متابعة الحرب الروسية الأوكرانية أنه لا يعلم ما إذا كانت الحرب مستمرة حتى يكون فيها منتصرا ومهزوما، أو أن طرفى الحرب مهتمان بالفعل بوضع نهاية لها، من خلال المفاوضات التى بدأت بعد فترة قصيرة من بداية العمليات العسكرية، ولاتزال مستمرة حتى الآن بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أطراف ثالثة.

والحقيقة التى دلنا عليها الاستراتيجى البروسى (الألمانى) كارل فون كلاوزفيتز (١٧٨٠- ١٨٣١)، فى كتابه «فى الحرب»، هى أن المفاوضات أو السياسة ما هى إلا حرب بوسائل أخرى.

ما يجرى بحثه دائما هو «الصراع» أو النزاع بين أهداف متصادمة، ويكون العمل العسكرى وسيلة للتأثير فى مواقف الخصم، لكن هذا «التأثير» كثيرا ما يأتى من خلال تفاعلات شتى، كانت المفاوضات أبرزها فى الماضى، لكن الآن فإن الاقتصاد والإعلام وساحة المنظمات الدولية أو تأييد الرأى العام العالمى صارت جزءا من المعادلة لا يمكن الاستغناء عنه.

وكان من الطبيعى فى حروب جرت فى الماضى أن تكون الأداة العسكرية هى الحاسمة فى نتائجها رغم وجود درجة من درجات «الدبلوماسية» والتفاوض، لكن ذلك كان يأتى عادة عندما تقرر الأطراف أن الصراع المسلح قد أدى إلى درجة عالية من الإرهاق، أو بات واضحا أن هناك حاجة ماسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

والآن لم يعد الحال كذلك، فالاتصالات المباشرة تكون حاضرة منذ ما قبل بداية الصدام المسلح، ولم يمنعها نشوب الحرب، وفى كل الأوقات كانت هناك جسور أقامتها دول رأت فى نفسها أن بوسعها الوساطة نظرا لروابطها بالطرفين، وفى أحيان أخرى أرادت دول أن تكون وسيطة أمام عدسات المصورين، وكفى.

فى الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا فإن «الوسائل الأخرى» تبدو أوسع كثيرا من طرفى القتال. فالأصل فى الموضوع له علاقة بالتركيبة «الجيو سياسية» فى الصدام، وهو ما يستدعى النظر إلى الخريطة، حيث الجغرافيا التى تحتضن فيها روسيا أوكرانيا، والتاريخ الذى خلق علاقات وثيقة بين الطرفين خرجا منها بكثير من الحنين فى ناحية، والسخط والغضب فى ناحية أخرى.

علاقات الجوار دائما لا تؤدى إلى حُسْنِه، وكثيرا ما تكون مصدرا للخوف والحذر وخوفا من الاستيعاب أو الابتلاع. وعندما تكون الدولة واقعة بجوار دولة عملاقة فى الحجم السكانى والجغرافى، وكثيرا ما يحدد كلاهما القوة المسلحة، فإن الدولة الأصغر حجما وسكانا تتحسب كثيرا للحالة النفسية والسياسية للدولة الأعظم.

وربما لا توجد صدفة أن الدول الصغيرة المجاورة للولايات المتحدة وروسيا والصين والهند تخشاها إن لم يكن لتنازع حدودى أو سكانى، فإنه يكون خوفا من طغيان ثقافى. كل هذه العوامل تشابكت فى صراع موسكو وكييف، وربما كانت جزءا من إساءة التقدير للذى انتاب كليهما خلال المراحل الأولى من التنازع.

من ناحية فإن روسيا ظنت أن صلاتها بالشعب الأوكرانى وثيقة، ولا يقلل من ذلك إلا حزمة سياسيين من «النازيين الجدد» الذين يستخدمون النزعة القومية للعداء تجاه روسيا، فإذا ما تم الخلاص من هؤلاء فإن أوكرانيا سوف تعود إلى الأحضان راضية مرضية. ومن ناحية أخرى فإن أوكرانيا ظنت أنه من الممكن تجاهل كل عناصر الجغرافيا والتاريخ، والقفز عليها اقترابا من حلف الأطلنطى والولايات المتحدة والغرب عامة، مهما كانت الأحوال فى الشرق.

ولم تكن هناك مصادفة فى أن الخطابات التى وجهها الرئيس الأوكرانى «زيلينسكي» إلى برلمانات الدول «الصديقة» كانت محملة بالكثير من خلق شعور بالذنب لدى هذه الدول أنها لم تذهب إلى أوكرانيا لقتال الجيش الروسى، ومن ثم فإنه بات عليها تعويض ذلك بكثير من المعونات والعدد والعتاد.

ما حدث عمليا هو أن «النزعة القومية» غلبت على كل الأمور الأخرى، وفى الإطار الروسى فإن الرئيس بوتين وضع الصدام دائما فى إطار ما تعرضت له «روسيا» من مهانة فى أعقاب نهاية الحرب الباردة. لم تكن روسيا، بالاشتراك مع ١٤ جمهورية أخرى، جزءا من دولة الاتحاد السوفيتى، ومن ثم فإن الإهانة كانت موزعة على الجميع أو أن الفشل كان نصيبها مجمعا.

فالواقع أن روسيا اعتبرت دائما أن الاتحاد السوفيتى هو الترجمة المعاصرة فى القرن العشرين لروسيا القيصرية، ولذا فإن سقوطه، حسب تعريف الرئيس بوتين، كان أكبر خطأ استراتيجى حدث فى ذلك القرن. لم تكن القضية سقوطا يماثل سقوط القياصرة من آل رحمانوف، وإنما سقوطا لروسيا وهويتها التاريخية، وحتى نزعتها فى التوسع الجغرافى الدائم.

التاريخ هكذا بدا واحدا من «الوسائل الأخرى» المستخدمة فى الصراع، وهو وسيلة لا تستخدم فقط فى مواجهة الخصوم، وإنما لضمان التأييد فى الداخل، خاصة وقد دخل الاقتصاد إلى الساحة، ولم يعد الصراع يعتمد على توازن القوى العسكرية، وإنما على قدرات التحمل الاقتصادية فى مواجهة عقوبات قاسية.

وبغض النظر عن التحليلات المختلفة لنتائج المعارك، وما عكسته من توازنات للقوى العسكرية، فإن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى المعونات والتحركات العسكرية القريبة من ساحة القتال، كان لديها نوعان من الوسائل الأخرى: الأول هو العقوبات الاقتصادية، وجوهرها أن تدفع روسيا ثمنا لضآلتها الاقتصادية فى زمن العولمة، والثانى نزع الشرعية عن النظام السياسى الروسى وعن الرئيس بوتين شخصيا من خلال تقسيم العالم والأنظمة السياسية بين «الديمقراطية» و«السلطوية».

ورغم أن ذلك كان أداة الرئيس بايدن لبث العنفوان الليبرالى فى الحزب الديمقراطى، فإن جوهره فى الصراع كان نزع الشرعية عن الرئيس بوتين، وبالتالى حربه تجاه أوكرانيا. ورغم أن مثل ذلك لم يكن جديدا خلال فترة الحرب الباردة، فإن الواقع الدولى الراهن يختلف عما كان عليه فى ذلك الوقت، فروسيا بعد كل شىء صارت دولة رأسمالية تتفاعل سوقها مع باقى الأسواق العالمية، خاصة فى أوروبا، وفى مجال الطاقة غازا ونفطا.

مثل ذلك يأتى بالصين إلى الساحة رافضة للتقسيم الأمريكى للعالم، وتضع مكانه تقسيما آخر بين حلف الأطلنطى فى ناحية، وبقية العالم فى ناحية أخرى. ومن هنا تأتى صيحة المراجعة للنظام الاقتصادى العالمى التى وضعتها روسيا على المحك من خلال استهداف قدس أقداسه القاضى بأن يكون الدولار الأمريكى هو العملة الدولية الرئيسية فى كافة المعاملات والتبادلات بين دول العالم.

الحرب الروسية الأوكرانية سوف تنتهى فى يوم ما، ربما لن يكون بعيدا، لكن ما لن ينتهى فسوف يكون كيف أدت الحرب إلى تغيير العالم ومعه النظام الدولى. ملامح ذلك تبدو شاحبة الآن بما سوف يظهر فى «أوراسيا» أو فى الإقليم الروسى الأوروبى الذى يدور حول أوكرانيا، لكن المؤكد أن النتائج سوف تكون أبعد، بعضها سوف يتمدد إلى وضعية الدول المحايدة، وبعضها الآخر إما أنه سوف يؤدى إلى الخفوت لروسيا، أو البروز الظاهر للمكانة والقوة الصينية، ومعهما سوف تكون الولايات المتحدة وعملتها فى الميزان، حسبما ستكون عليه الأوضاع السياسية داخل أمريكا ذاتها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحرب بوسائل أخرى الحرب بوسائل أخرى



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء

GMT 14:11 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

جمعية خيرية تنظيم حملة للتبرع بالدم في تاوريرت

GMT 09:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إيقاف وسيط في تجارة الممنوعات بالقصر الكبير

GMT 04:03 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

صدور كتاب تربوي جديد للدكتور جميل حمداوي

GMT 13:41 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ليلى أحمد زاهر تهنئ هبة مجدي بخطوبتها
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca