معركة «الدونباس»

الدار البيضاء اليوم  -

معركة «الدونباس»

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

منذ بدأت الأزمة - الحرب الأوكرانية طارد المحللين أربعة أسئلة مهمة: لماذا نشبت الأزمة الآن، ولماذا وصلنا إلى الحرب، وكيف كان مسار القتال، وما هو حال المستقبل بعد سكوت المدافع؟ العدد المقبل من دورية «الشؤون الخارجية» الأميركية عنوانه «العالم بعد الحرب»، ولكن الحقيقة هي أن الدورية تحاول الإجابة عن الأسئلة الأربع من خلال الدراسات والمقالات التي نشرتها خلال الأشهر الماضية.
ومع بقاء هذه الأسئلة الملحة في الذهن، فإن السؤال الحالي سوف يتعلق بنقطة فاصلة في المعارك الحالية وهي التحول من الحرب الروسية الشاملة للاستيلاء على أوكرانيا وإخضاعها لإرادة موسكو فيما يتعلق بنظامها السياسي وموقفها من إقليم الدونباس، حيث توجد أقلية تتحدث اللغة الروسية وتريد أن تكون جزءاً من الدولة الروسية، والأهم من ذلك كله ألا تكون عضواً في حلف الأطلنطي ومتواضعة التسليح ومحايدة أيضاً.
باختصار، كان مطلوباً أن تكون في الحضن الروسي مرة أخرى وفق مكانة لا تزيد على حال دولة بيلاروسيا. ولكن كل ذلك لم يتيسر تحقيقه خلال المرحلة الأولى من القتال التي بدأت قبل شهرين تقريباً، حيث صمدت القيادة الأوكرانية وبقيت في الحكم، وخاضت معارك نجحت في الحفاظ على العاصمة، وتكبيد القوات الروسية خسائر كبيرة. ولكن ثمن النجاح الأوكراني كان كبيراً، سواء كان ذلك من الضحايا البشرية، أو تدمير المدن التي لم تتمكن القوات الروسية من اقتحامها، فضلاً عن تحول أكثر من خمسة ملايين أوكراني إلى لاجئين في الدول المجاورة، خاصة بولندا، وتسعة ملايين أصبحوا نازحين إلى المناطق الأوكرانية الأكثر هدوءاً في غرب الدولة. خلال هذه المرحلة الأولى من الحرب بات واضحاً أن الحرب تدور على جبهتين: الجبهة الروسية – الأوكرانية، حيث جرى ما تقدم، والجبهة الروسية - الأميركية والغربية في العموم. وبينما دار في الأولى القتال، فإنه في الثانية اختفى القتال المباشر وسادت كل الأنواع الأخرى من المقاطعة الاقتصادية إلى تأييد وتسليح أوكرانيا بكل ما يسعدها اللهم إلا ما يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
ما ميّز المرحلة الأولى من الحرب كان تواضع الأداء الروسي الذي على الأرجح اعتمد كثيراً على توازن القوى الكمي الذي هو في صالح روسيا وبفارق هائل، وعانت القوات الروسية كثيراً من طول خطوط الإمداد أو ما وصفه كاتب «طغيان المسافة» التي كانت تاريخياً تعمل لصالح روسيا، حيث كان عمقها الاستراتيجي كبيراً حتى أدى إلى هزيمة القوات الفرنسية في حرب نابليون، وكذلك هزيمة ألمانيا في زمن هتلر. في الحرب الأوكرانية طغت المسافة في الاتجاه العكسي وعانت التشكيلات الروسية الميدانية من فقر الدعم اللوجيستي، حيث يحتاج كل جندي روسي 440 رطلاً من الإمدادات يومياً، بما في ذلك الطعام والوقود والذخيرة والدعم الطبي؛ وما زاد المشكلة تعقيداً عدم كفاية قوافل الإمداد لحماية خطوط الدعم التي باتت عرضة للكمائن حينما اكتشف الأوكرانيون أن كعب أخيل في الجهود الروسية هو الخدمات اللوجيستية. وفي العموم، عانت القوات الروسية من نقص الغذاء والماء والوقود والرعاية الطبية، والأعطال الكثيرة في المركبات والمدرعات. وربما كانت المفاجأة الكبرى التي واجهتها القوات الروسية هي حدة المقاومة الأوكرانية، والقوة التكنولوجية لوسائلها الدفاعية، خاصة إزاء الدبابات والطائرات.
المرحلة الثانية من الحرب والتي بدأت بعد أقل من شهرين من بداية القتال، تغيرت الاستراتيجية الروسية أولاً من الهدف الذي شمل أوكرانيا كلها إلى القضاء على طغيان المسافة من خلال التركيز على منطقة شرق أوكرانيا وإقليم الدونباس تحديداً، حيث كانت القوات الروسية موجودة بالفعل منذ وقت طويل في مقاطعتي دونتسيك ويوهانسيك التي يتحدث سكانها اللغة الروسية ويرتبطون بروسيا ارتباطاً ثقافياً وجغرافياً، ولهم صلة إقليمية مع إقليم القرم كله.
وثانياً، أن تغيير القيادة العسكرية الروسية في الحرب إلى الجنرال ألكساندر دفرنكوف أدى إلى إعادة «المركزية» إلى قيادة الجيوش الروسية التي ذهبت إلى أوكرانيا فرادى للاستحواذ على أهداف مختلفة، والتركيز على إقليم الدونباس واتصاله مع إقليم القرم والبحر الأسود ومن ثم كانت الأهمية الاستراتيجية لميناء ماريوبول. المنهج العام للجنرال قام على خبراته السابقة في سوريا والقائم على العنف الشديد وتدمير ليس فقط المقاومة وإنما ما يصاحبها من تأييد بين المدنيين.
وقبل أسبوع أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن سقوط ماريوبول في يد القوات الروسية، ولكن مشهد السقوط لم يكن كاملاً لأن مصنعاً للمعادن ظلت المقاومة الأوكرانية صامدة فيه بمزيج من القوات العسكرية وقرابة 1000 من المدنيين.
المرحلة الثانية على شدتها لم تخفض فقط من الأهداف الروسية الأولى إلى تحقيق نصر أكثر تكلفة من نصر «تحرير» القرم في 2014؛ وإنما رفعت الأهداف الأوكرانية في الوقت نفسه من التوصل إلى اتفاق مع روسيا على حياد أوكرانيا، إلى تحرير الأراضي الأوكرانية كافة. وإذا كانت الجولة الأولى من الحرب قد سمحت بالكثير من المفاوضات حول إنهاء الحرب، فإن الجولة الثانية أتت وسط فراغ دبلوماسي، وتصعيد عسكري من الجانبين الروسي والأوكراني - الأميركي. هذا التصعيد الأخير يتميز بدرجات أعلى من العنف إزاء المدنيين من جانب الروس، ودرجات أعلى من المساعدات العسكرية الغربية التي لم تعد تقتصر على الأسلحة الدفاعية وإنما تضمنت أسلحة هجومية شملت طائرات هليكوبتر من طراز «Mi – 17» ومدافع «هاوتزر» وطائرات من دون طيار للدفاع الساحلي وسترات واقية لحماية الأفراد في حالة وقوع هجوم كيميائي أو بيولوجي أو نووي. وقبل أسبوع كان البنتاغون على وشك الانتهاء من تسليم العناصر الأخيرة في حزمة مساعدات أمنية بقيمة 800 مليون دولار وافق عليها بايدن في 16 مارس (آذار) ومجموعة شحنات بقيمة 100 مليون دولار تمت الموافقة عليها وتضمنت الحزمة الأكبر طائرات من دون طيار Switchblade التي يمكن تسليحها بالمتفجرات وتوجيهها إلى الأهداف، وصواريخ «ستينجر» المضادة للطائرات، والأسلحة المضادة للدروع بما في ذلك صواريخ «Javelin».
الواضح من التغييرات الجارية على طرفي الحرب، أن المرحلة المقبلة سوف تكون أشد عنفاً بعد أن بدت التسوية أو الحل أو حتى وقف إطلاق النار غير ممكن من خلال المفاوضات. المرحلة الثانية والخالية من مفاوضات نشطة تضع ضغوطاً اقتصادية شديدة لم تعد واقعة فقط على روسيا وإنما امتدت آثارها السلبية إلى أميركا والغرب في عمومه والعالم أجمع.
في مثل هذه الحالة يكون استخدام الأدوات العسكرية مغرياً لعلها تحسم الأمر في ساحة القتال. في مثل هذه الحالة، فإن مستقبل الحرب في أوكرانيا لن يكون أقل غموضاً من أي وقت مضى، ولا يوجد ما يقطع أن تكون «معركة الدونباس» فاصلة ليس فقط لأن الأمر سوف يتوقف على نتائجها، وإنما لأن نتائجها بنصر روسي لن تعني توقف الأطراف الأخرى عن استمرار القتال وإعطاء أوكرانيا المزيد من الأدوات التي تعينها على مراجعة النصر الروسي والبحث عن نقطة جديدة من التوازن الذي سوف يكون مستحيلاً إذا ما بدا أن حلف الأطلنطي سوف يتوسع بضم فنلندا؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معركة «الدونباس» معركة «الدونباس»



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:53 2019 الجمعة ,03 أيار / مايو

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 08:23 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجدي الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:03 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 18:00 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تشعر بالانسجام مع نفسك ومع محيطك المهني

GMT 15:27 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

توقيف فتاة كانت بصحبة شاب على متن سيارة في أغادير

GMT 03:00 2017 الإثنين ,02 كانون الثاني / يناير

أنطوان واتو يجسّد قيم السعادة في لوحاته الفنيّة

GMT 18:55 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

تمرّ بيوم من الأحداث المهمة التي تضطرك إلى الصبر

GMT 20:15 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

افتتاح المهرجان الدولي لمسرح الطفل في رومانيا

GMT 12:01 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

وجهات منازل رائعة استوحي منها ما يناسبك

GMT 09:29 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

أفكار مختلفة لترتيب حقيبة سفركِ لشهر العسل

GMT 08:44 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

منظمة "ميس أميركا" ترفع الحد الأقصى لسنّ المتسابقات

GMT 09:08 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

أفضل الطرق لتنسيق تنورة الميدي مع ملابسك في الشتاء

GMT 14:11 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

جمعية خيرية تنظيم حملة للتبرع بالدم في تاوريرت

GMT 09:22 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

إيقاف وسيط في تجارة الممنوعات بالقصر الكبير

GMT 04:03 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

صدور كتاب تربوي جديد للدكتور جميل حمداوي

GMT 13:41 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ليلى أحمد زاهر تهنئ هبة مجدي بخطوبتها
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca