بقلم - سليمان جودة
ليست المرة الأولى التي يطرأ فيها حدث مفاجئ، فيسرق الكاميرا من كل الأحداث التي كانت حاضرة وسابقة عليه، ثم يبتلعها كأنه عصا موسى، عليه السلام، التي تحولت إلى ثعبان يبتلع كل الثعابين التي جاء بها كل ساحر من سحرة فرعون.
وإذا كانت عصا موسى قد سرقت الكاميرا في المشهد وقتها، فإن هذا قد حدث ويحدث من حولنا في القرن الحادي والعشرين، ونحن نتابع مع الدنيا ما يجري على الحدود الروسية - الأوكرانية، وما يمكن أن يقع لو أن روسيا غزت الحدود ثم تجاوزتها إلى داخل البلاد.
إن الكاميرا قادرة على سرقة الأضواء في الكثير من المواقف، وهي لا تفعل هذا على مستوى الشعوب فقط كما هو الحال في هذه اللحظة في الملف الأوكراني - الروسي، أو الروسي - الأميركي، أو حتى الشرقي - الغربي، إذا شئنا أن نقسّم العالم إلى حلفين متقابلين، ولكنها قادرة على أن تسرق الأضواء على مستوى الأفراد بالدرجة نفسها التي تسرقها بها على مستوى الدول!
حدث هذا في القاهرة عام 1973، عندما رحل طه حسين في الثامن والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) من تلك السنة، وقد كانت السنة التي تحقق فيها النصر الكبير على إسرائيل، وكان حظ عميد الأدب العربي أن يرحل فيها، بينما مصر كلها غارقة ومعها العالم العربي في نشوة النصر الذي تحقق!
ولم تكن المشكلة أن طه حسين رحل في السنة ذاتها، فالسنة بحكم عدد أيامها الكثيرة يمكن أن تتسع للكثير من الأحداث الكبيرة، ولكن المشكلة كانت في أنه مات في الشهر ذاته، بل إن يوم رحيله لم يكن بينه وبين يوم وقف الحرب سوى ستة أيام، وبالتالي كانت المحروسة كلها مشغولة ومعها عالمها العربي بما كان قد تحقق من نصر، ومن فوز، ومن إنجاز عسكري مشهود على جبهات القتال، ولم يكن أحد في ذروة احتفالات النصر على استعداد لأن تأخذه مشاعره إلى مكان آخر.
ولو رحل صاحب «الأيام» في يوم غير اليوم الذي رحل فيه، لكان لرحيله شأن مختلف، ولكان رحيله قد ملأ الدنيا وشغل الناس!
ومن قبل طه حسين، كان مصطفى لطفي المنفلوطي قد مر بالتجربة نفسها، عندما فارق الحياة في اليوم ذاته الذي جرى فيه إطلاق النار على سعد باشا زغلول. ولك أن تتصور حال الصحف يومها في عام 1924 وهي تتلقى نبأين في وقت واحد: نبأ إطلاق الرصاص على زعيم الأمة، مع ما في ذلك من احتمالات الخطر على حياته، ومعه نبأ موت المنفلوطي الأديب الشهير.
لم تشفع للمنفلوطي طبعاً شهرته، ولا شفع له أدبه، ولا شفعت له رواياته العاطفية ذائعة الصيت، فلم تجد الجرائد الصادرة في اليوم التالي مفراً من أن تملأ صفحتها الأولى بمانشيتات عن تفاصيل النبأ الخاص بالزعيم، ثم تنقل نبأ المنفلوطي مضطرة إلى صفحة داخلية قد يراها القارئ وقد لا يراها، وحتى إذا رآها فلن يكون على استعداد نفسي لقراءة شيء آخر يزاحم اهتمامه الطبيعي بسعد باشا وكل ما يتصل به، وبحياته، وبكل تفصيلة حول الحادث الضخم المفاجئ!
وكانت النتيجة أن المنفلوطي غادرنا في هدوء، كما غادر طه حسين بعده في هدوء مماثل، لا لشيء إلا لأن حدثاً كبيراً طارئاً قد حل على البلد، فسرق الكاميرا بكاملها ولم يترك فرصة أمام أحد لينشغل بغير الحدث الطارئ المفاجئ.
ولو أن أحداً فتّش عن أشياء مشابهة، فسوف يقع على الكثير مما هو مماثل، ولكنّ حالة المنفلوطي ومعها حالة طه حسين كانتا هما الأهم في هذا الطريق.
رحل كلاهما ولسان حاله يردد قول الشاعر:
اخترت يوم الهول يوم وداع
ونعاك في عصف الرياح الناعي
من مات في هول القيامة لم يجد
قدماً تُشيّع ولا حفاوة ساعي
ولن يختلف لسان الحال معنا إذا استعدنا الآن ما عشنا نتابعه، قبل أن تخرج الخلافات بين الدب الروسي والعُقاب الأميركي من الغرف المغلقة إلى ساحات الإعلام، وقبل أن تتجسد حشوداً على الحدود بين روسيا وأوكرانيا يتابعها العالم وهو يقف على أطراف قدميه!
تفتش على سبيل المثال عن آخر أخبار فيروس «كورونا»، وعن أحدث جولات المتحور «أوميكرون»، فلا تكاد تعثر على شيء، وإذا أحببت فلن تجد ذلك إلا في ركن داخلي من الصحيفة يتوارى عن كل عين، بعد أن كان مانشيتات في الصفحات الأولى وفي صدر النشرات على الشاشات.
ولو كان «أوميكرون» كائناً ينطق لكان قد نعى حاله، ولكان شكا سوء حظه الذي فاجأه فأزاحه بعيداً عن العيون، وقد كان حاضراً يُخيف الجميع بلا استثناء، فإذا به على الهامش، وإذا به يجاهد ليبقى في جانب من جوانب دائرة الضوء.
وتبحث عن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي كان إلى أيام قليلة مضت يقف على حافة الهاوية، ويدعو الله أن يكتب له النجاة من الأصدقاء داخل حزبه، ومن الأعداء الخصوم خارج الحزب، فإذا به اليوم يخرج منتشياً يهدد الكرملين في موسكو بما سوف يلقاه، إذا فكر في الهجوم على الأراضي الأوكرانية، وإذا اجترأ على الدخول في مواجهة مع حلفاء أوكرانيا الذين يقفون وراءها!
وتنقّب عن الجديد في قوافل الحرية، التي أرغمت رئيس الوزراء الكندي على مغادرة مكتبه خوفاً، والتي أغلقت الحدود بين كندا والولايات المتحدة، والتي انتقلت كأنها العدوى من الأراضي الكندية إلى أوروبا، فلا تكاد تجد شيئاً مما يخص هذه القوافل إلا بشق الأنفس، وإلا في مساحات صحافية داخلية مخنوقة لا تستوقف العين ولا تسترعي النظر!
وحتى نبأ إصابة ملكة بريطانيا التي تجلس على عرش بلادها منذ سبعين سنة، لم يجد لنفسه مساحة لائقة في جريدة أو على شاشة، إلا بالكاد، وإلا بأحكام الضرورة التي تجعل من العيب أن تصاب الملكة الأقدم في العالم بـ«كورونا»، ثم لا تحصل على ما يناسب مقامها الملكي من اهتمام صحافي يليق بها وبالعرش الذي تستقرّ عليه منذ سبعة عقود!
كل هذه الأنباء المتفرقة كانت موجودة بحجمها الطبيعي إلى يوم الحدث الأوكراني الأكبر، وحتى النبأ الذي استجدّ منها مثل نبأ إصابة الملكة، فإنه بالتأكيد كان سيحصل على نصيبه من الاهتمام الطبيعي وقت حدوثه، لو أن الإصابة وقعت في ظروف أخرى، ولكن عصا موسى على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، قد حوّلت نبأ الملكة والأنباء الكبيرة جميعاً إلى ما يشبه الحبال والعصيّ التي ألقاها سحرة موسى أمام العيون، ثم راحت تبتلعها عصاً من وراء عصا، وحبلاً من وراء حبل، بينما المتابعون اليوم، كما كان المتحلقون حول موسى وعصاه وسحرة فرعون، لا يكادون يصدقون!.
ليست الكاميرا فيما نتابعه كل يوم سوى عصا موسى بمعناها العصري، وهو المعنى الذي يجعل كاميرا العصر تلتهم كل شيء في طريقها، إذا ما انفتحت شهيتها على شيء يتحدى قدرتها على الالتهام، وعلى الابتلاع، وعلى الانقضاض بكل معانيه!
والمادة في كل الأحوال هي الإنسان، الذي تتغذى كاميرا العصر على آلامه وأوجاعه، ولا تكاد تلتهمه في ركن من الأرض حتى تتحول إليه في ركن جديد، بينما هو يتابع في شغف وبعضه يتفرج على بعض!