بقلم: هدى الحسيني
بغضّ النظر عن النتيجة العسكرية للاجتياح الروسي لأوكرانيا فإن الحدث في حد ذاته هو مفصل تاريخي مهم جداً سيؤسس لنظام دولي جديد وسيؤثر في حياة الكثير من شعوب الأرض. إذ بعيداً عن الإعلام الموجه وضوضاء الذباب الإلكتروني على منصات التواصل الاجتماعي، من الضروري أن نفهم خلفية وفكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أدى إلى اجتياح أوكرانيا.
لنتخيل هذه الصورة: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جالس في مكتبه في الكرملين يفكر في اللحظة التي يعيشها. يرى أنه كقوة عظمى نشأت روسيا من رماد الاتحاد السوفياتي السابق، وبذلت جهوداً كبيرة لاستعادة هيمنتها الجيوسياسية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي من أجل دحر النفوذ الغربي، وتعزيز أمنها القومي، وقلب ارتباط القوى. يقرر إعادة صياغة الهيكل الأمني الأوروبي للوفاء بمتطلباته الاستراتيجية. لذلك فإن الاجتياح المباشر لأوكرانيا هو مجرد أحدث دليل - وبالتأكيد أكثر الأدلة قسوة - على مثل هذا السعي الحازم. ومع ذلك، في محاولة لإعادة تأكيد مكانة روسيا كقوة لا يستهان بها على نطاق عالمي، عززت موسكو أيضاً موقعها خارج محيطها المباشر. في الواقع، يمكن رؤية أبعاد النفوذ الروسي حتى في نصف الكرة الأرضية الأميركي، بعيداً عن مجالها الحيوي الطبيعي. يتحدى هذا التطور الفكرة الأساسية لعقيدة مونرو: تصور نصف الكرة الأميركي كمجال نفوذ حصري لواشنطن. يجب أن يؤخذ في الاعتبار أنه وفقاً لوجهات النظر لنيكولاس سبيكمان، فإن المحيط الجيوسياسي للأمن القومي الأميركي يمتد من ألاسكا وغرينلاند إلى كولومبيا، وهي منطقة تشمل كندا والمكسيك وبرزخ أميركا الوسطى وحوض الكاريبي...
ومع ذلك فإن الوجود الروسي في نصف الكرة الأميركي ليس بالأمر الجديد. احتل الروس ألاسكا. علاوة على ذلك، في سياق الحرب الأهلية الأميركية، دعمت الإمبراطورية الروسية الاتحاد دبلوماسياً، بل أرسلت سفناً حربية إلى موانئ أميركية استراتيجية لردع أي تدخل عسكري مباشر من جانب بريطانيا أو فرنسا، وهما خصمان كان لدى روسيا حسابات معهما لتسويتها بعد حرب القرم - لصالح الكونفيدرالية، الجانب الذي كانت لندن وباريس تميل إلى دعمه. بعد فترة وجيزة من الانتصار المصيري للشمال، باعت ألاسكا للولايات المتحدة لأن تكاليف الاحتفاظ بها أصبحت أعلى من الفوائد. توقع الروس أن يؤدي امتصاص الأميركيين لألاسكا إلى إضعاف موقع البريطانيين في الساحل الشرقي لكندا. في المقابل، أرادت واشنطن ألاسكا كبوابة إلى آسيا وكقائد حربة للقوة البحرية الأميركية في المحيط الهادئ.
هذه الوقائع تعشش في رأس بوتين وتكبر، فهو يعتقد أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومنذ الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية، عمل جاهداً على تهديم قوة الاتحاد السوفياتي – إذن إنه التهديم الثاني. وقد نجح وتجلى نجاحه بهدم حائط برلين وانكفاء سيطرة موسكو على أوروبا الشرقية و15 دولة شكلت الاتحاد السوفياتي، الدولة العظمى التي لم يكن لها منافس سوى الولايات المتحدة. ولقد أحبط هذا الانهيار الضابط فلاديمير بوتين الذي كان يدير مركز الـ«كي جي بي» في ميونيخ، وساءه تخاذل قياداته مما همّش قوة موسكو وهيبتها وأنهى مركزها كعاصمة قرار على قدم المساواة مع واشنطن. ومع تسلمه مركز القيادة من بوريس يلتسين، الرئيس الروسي السابق والذي اختاره خليفة له عام 2000 لم يُخفِ حنينه إلى الاتحاد السوفياتي قائلاً «مَن لا يفتقد وجود الاتحاد فهو بلا قلب»، ولكنه علم أيضاً أن استعادة المجد السوفياتي بات أمراً مستحيلاً، فالاشتراكية فشلت ولملمة بعض الدول المنفصلة التي أصبحت تدور في فلك الغرب عن طريق انضمامها إلى حلف الناتو أضحت صعبة، ولهذا صمم على تقوية روسيا وجعلها المركز الذي تدور في فلكه دول من الاتحاد السابق، يرأس هذه الدول أشخاص يدينون بالولاء لموسكو ويأتمرون بما يملي عليهم الكرملين ويعملون على تعزيز المصالح الروسية، فكانت منظمة الأمن الجماعي التي ضمت إلى جانب روسيا، أرمينيا، وجورجيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وبيلاروسيا، وطاجيكستان وأوزباكستان. وكانت أوكرانيا هدفاً أساسياً لضمها إلى الاتحاد لموقعها الجغرافي الأقرب إلى أوروبا الغربية والتي فيها ممرات بحرية مهمة تسمح بالوصول إلى المياه الدافئة. هذا عدا عن المصالح الروسية الأساسية التي تمر في أراضيها إلى أوروبا وأهمها النفط والغاز. وكان بوتين يردد دائماً في المناسبات معنى كلمة أوكرانيا باللغة الروسية وهو «الطرف» أو «الحدود»...
في مقابل جهود الرئيس بوتين لاستعادة أمجاد ضاعت، كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة يسعى دائماً إلى التوسع شرقاً. فمنذ انهيار الجدار الحديدي الذي سيطرت موسكو على دول ضمنه ممتدة من آسيا الوسطى إلى حائط برلين في أوروبا الغربية، قامت الولايات المتحدة بدعم وتشجيع شعوب بلاد الجدار للمطالبة بالديمقراطية وإنشاء النظم الاقتصادية الليبرالية، فحصل التغيير في دول كثيرة انضمّت إلى حلف الناتو منها بولندا وليتوانيا وهنغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وغيرها، وقد وصل عدد الدول الأعضاء في الحلف إلى 30 بعد أن كان 17 في سبتمبر (أيلول) 1990 عندما وعد جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي حينذاك، الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف، بوقف توسع الناتو مقابل حل حلف وارسو. وقد كان توسع الناتو البند الأول في جميع اجتماعات بوتين مع الرؤساء المتعاقبين في الولايات المتحدة، وقد أدرك بعد اجتماعه مع الرئيس باراك أوباما في سبتمبر 2016 على هامش قمة العشرين التي استضافتها الصين، أن توسع الناتو لن تمنعه إلا القوة. وقد وصف أوباما ذلك الاجتماع بأنه كان صريحاً للغاية وبالمباشر وأقرب إلى اجتماعات العمل، ما يعني باللغة الدبلوماسية أن وجهات النظر لم تكن متطابقة، والمصالح متباينة. ورغم تحسن العلاقات الأميركية - الروسية في عهد الرئيس دونالد ترمب فإن بوتين فقد الثقة نهائياً بمصداقية الولايات المتحدة، بل في النظام الدولي القائم بأجمله.
في مذكرات مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي «القوة والمبدأ» كتب أن روسيا إما أن تكون دولة إمبريالية وإما دولة ديمقراطية إنما لا يمكن أن تكون الاثنتين معاً، وليس خافياً على أحد أن خيار فلاديمير بوتين كان الإمبريالية الروسية، فهو قام بإسكات المعارضة الداخلية وتدخل في جورجيا والشيشان وكازاخستان وأرسل فرق النخبة من الجيش الروسي لضرب محاولات التغيير وإنهاء التمرد وتثبيت تابعي الكرملين في الدول الحليفة. وقد كان لدى الرئيس الروسي قناعة راسخة بأن جميع التحركات الشعبية هي من صنيعة الغرب بهدف تمدد سيطرته شرقاً، وفي هذا لم يكن لديه أي تقدير ليأس وغضب المجتمعات بسبب فساد السلطات الحاكمة الموالية لموسكو وبطشها وظلمها.
ومن هنا كانت المناورات العسكرية المشتركة بين الناتو والجيش الأوكراني والاستعراض العسكري المشترك في يونيو (حزيران) 2021 وما تناقلته الصحف الغربية وأكدته تصريحات مسؤولين أوكرانيين عن طلب الانضمام إلى الناتو، الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فعدّها بوتين استمراراً لسياسة التوسع شرقاً، ولم يعد لديه خيار سوى الرد باجتياح أوكرانيا.
ساذج من يعتقد أن بوتين لم يتوقع رد الفعل الدولي على قراره، أو أنه لم يقيّم حجم الخسائر التي يمكن أن تلحق ببلده، وبغضّ النظر عن صحة حساباته أو خطئها، إلا أنه لن يستطيع ولا يرغب في العودة إلى النظام الدولي الذي كان قائماً قبل اجتياح أوكرانيا. فرفعُ درجة التأهب النووي وقصفُ المدن وتهجير ملايين السكان والتهديد بضرب خطوط الإنترنت وإلحاق أشد الأذى بأوروبا، سيجعل من المستحيل عودته إلى الوضع الذي كان قائماً قبل حرب أوكرانيا. لذا تعتقد مصادر في وزارة الدفاع البريطانية أن بوتين سيستمر في حملته على أوكرانيا غير آبهٍ بعقوبات اقتصادية تزداد كل يوم، وسيستعمل كل الوسائل العسكرية المتاحة لدخول كييف ومن بعدها أوديسا وتصبح البلاد محاصَرة تحت سيطرته حتى تستسلم ويتم تغيير النظام لتصبح أوكرانيا دولة «الحد» لستار حديدي جديد تقوده روسيا. يقول أحد معارف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن القيادة الروسية على اقتناع تام بأن عالماً تهيمن على مقدراته الولايات المتحدة هو غير قابل للاستمرار وأن حلفاء أميركا في أوروبا ضعفاء ويشكلون عبئاً وليس دعماً لمخططاتها، ولهذا فإن تعاوناً وثيقاً مع دول العالم الآخر وعلى رأسهم الصين وتليها الهند وفي مرحلة تالية إيران، سيشكّل القوة الراجحة في موازين القوى الدولية وسيؤدي إلى تراجع الولايات المتحدة التي يمكن أن تعود إلى سياسة العزلة. ولكن علينا ألا نغفل أن حسابات الروس يمكن أن تكون مخطئة وأن أوكرانيا يمكن أن تكون الفخ الذي نصبه أعداء روسيا للقضاء على طموحات بوتين ومخططاته. كما أن الصين يمكن أن تغيّر في موقفها الذي هو اليوم أقرب من روسيا، وذلك إذا حصلت على صفقه تحقق ما تطمح إليه.
ولعل ما يقلق المراقبين اليوم هو مصير المؤسسات الدولية التي لروسيا دور أساسي في عملها، مثل مجلس الأمن ولديها حق النقض في قراراته، فمنذ إنشاء المجلس لم يتم وضع أي من الأعضاء الخمسة الدائمين على لوائح العقوبات، فكيف لهذا المجلس أن يُصدر قراراته التي يفرض التزامها تحت طائلة العقوبة في حال التخلف، وأحد الأعضاء هو نفسه معاقَب ومتَّهَم بجرائم ضد الإنسانية؟ هذا الخلل هو مثلٌ واحد لما حصل بنتيجة اجتياح أوكرانيا، وهناك أمور أخرى أكثر تعقيداً وخطورة مثل التعاون الدولي في أمور الصحة العالمية وحماية البيئة ومنع التسلح النووي. ومع انحلال النظام العالمي القائم منذ عام 1945 وحتى إيجاد نظام بديل، يخشى المراقبون أن يدخل العالم في انقسام عمودي مضطرب لا مكان فيه للحياد والنأي بالنفس.