بقلم : غسان شربل
أخذنا ريان المغربي إلى توقيته. استولى على أيامنا. سمَّرنا أمام الشاشات والهواتف. سرق الأضواء من كل ما عداه. بدا مصيره وكأنَّه امتحان لإنسانيتنا. ومن أماكن قصية، انخرط الناس في أوجاع والده وأحزان أمه. نادراً ما فاز فرد واحد بهذا القدر من التعاطف والاهتمام. انشغلت أعداد هائلة من الناس بصورة فوهة البئر. ولم تستطع الشبكات نقل الصورة إلى موضوع آخر، فقد تحوَّل مصير ريان امتحاناً لها أيضاً للفوز بالسبق واستقطاب المشاهدين. وساهمت التغطية المكثفة في إضاءة قناديل الأمل بخروج الطفل حياً على رغم خطورة الحادث الذي تعرَّض له. ولم يكن مفاجئاً أن تكون الخيبة بحجم التوقعات، وأن يجلّل الحزن الشاشات ومشاعر المشاهدين.
وكان طبيعياً أن نتذكَّر انشغال العالم في سبتمبر (أيلول) 2015 بصورة جثة الطفل آلان، الكردي السوري، وهي ملقاة على شاطئ المتوسط بعدما خان «قارب الموت» ركابَه، ومن عادة «قوارب الموت» أن تخون. يومها أيضاً جالت صورة الطفل على كل شاشات العالم، وكان لها أثر في قرار بعض الدول فتح أبواب للسوريين الهاربين من جحيم الحرب. طبعاً مع الالتفات إلى الفارق في الظروف بين السقوط في البئر والموت على شفير البحر.
أكدت مأساة ريان التأثير الهائل للإعلام بشاشاته ومواقعه وصحفه وتسابق الأخبار العاجلة كأنَّنا في خضم معركة كبرى. أكدت أيضاً قدرة الإعلام بسرعته وإبهاره على حشد رأي عام واسع وراء قضية. أظهرت أيضاً قدرة الإعلام على إلهاب المشاعر وإدخال تغيير سريع على أولويات الناس. وإذا كان هذا الدور مفيداً ونبيلاً في قصة إنسانية من هذا النوع، فلنا أن نتمعن في خطورته إذا استخدم الإعلام في إذكاء كراهيات عرقية أو قومية أو الترويج لسيناريوهات التضليل. تتيح الغابة الإعلامية حالياً فرصاً ذهبية للمشاعر المسمومة وللمعلومات المغلوطة وحملات التضليل المقصودة.
انتهت قصة ريان بخاتمة حزينة. أسدل الستار. لكن ما سيكون مفيداً هو الاحتفاظ من قصة الطفل والبئر بما يخدم الأطفال والإنسانية. والحقيقة أن الطفل يسقط في بئر ما، حينما يولد في ظل الفقر المدقع. ويسقط أيضاً حينما يعجز عن التوجه إلى المدرسة أو يضطر إلى التسرب منها. ويتعرَّض لنوع من السقوط حينما تضيع قدراته بفعل برامج تعليمية متخلفة ولا علاقة لها بالعصر، تماماً كما تضيع أعمار شبان ينفقون سنواتهم في بئر البطالة. وأخطر من كل ذلك وقوع الصبيان والمراهقين في بئر العصبيات ورؤيتهم يتدرَّبون على الرشاشات والقتل في عهدة مروجي الأفكار المعتمة والزمر التي تتقاسم الدول وتضاعف معدلات الفقر والموت. ولا مبالغة في القول إنَّ الآبار المحدقة بأي طفل يولد في الشرق الأوسط الرهيب بالغة العمق وشديدة الخطورة.
أسدل الستار على قصة الطفل والبئر. ومن عادة أمواج التعاطف الإنساني الهائلة أن تنحسر بالسرعة التي اندلعت فيها. والحقيقة هي أنَّ أمواج التعاطف هذه لا تغير كثيراً في مسار البشرية. المستقبل تصنعه الاقتصادات والترسانات والمخططات والمناورات وعلاقات القوة التي لا تتوقف طويلاً عند وقوع الدول الصغيرة في آبار يتعذَّر عليها الخروج منها من دون اللجوء إلى مظلات الأقوياء ودفع الثمن من سيادتها وحقها في صوغ مستقبلها.
خلال انشغالنا بقصة ريان المغربي كان العالم يشهد موعداً استثنائياً اختار له طرفاه مناسبة استثنائية وهي افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. لنترك الرياضيين والميداليات جانباً. الحدث الكبير كان القمة التي عقدت في العاصمة الصينية بين فلاديمير بوتين وشي جينبينغ. وضاعف من أهمية القمة أنها تعقد على نار الأزمة الأوكرانية التي تقلق أميركا وتقضُّ مضاجعَ الأوروبيين الذين دفعتهم العقود الماضية إلى الاعتقاد أنَّ أوروبا نجت من قعقعة السلاح وهاجس الاجتياحات وتغيير الملامح بالقوة.
يمكن القول إنَّ قمة الزعيمين الروسي والصيني وضعت أساساً صلباً لما يشبه المحور الموجه ضد الولايات المتحدة، الذي ينذر بإعادة إطلاق مناخ يشبه رياح الحرب الباردة القديمة. أيَّدت الصين موقف بوتين المعارض ليس فقط لتوسع حلف الناتو قرب الحدود الروسية، بل أيضاً لسلوكه حين حرَّك بيادقه الأوروبية الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فقد طالب البيان الروسي - الصيني حلف الناتو بالتراجع عما وصفها بمقاربات الحرب الباردة. كما انتقد التأثير الأميركي السلبي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في إشارة إلى تحالف «أوكوس» الذي يضمُّ الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. وكان متوقعاً أن يتبنَّى «الصديق» الزائر موقف بكين من مسألة تايوان.
لا شك أنَّ بوتين نجح في إثارة أزمة كبرى تشكّل جزءاً من محاولته تنظيم انقلاب واسع على الموقع الذي احتلته الولايات المتحدة بعد دفع الاتحاد السوفياتي، ومن دون إطلاق أي رصاصة، إلى التفكك والاستفراد بروسيا الضعيفة الخارجة من ركامه. والمحطة الصينية في هجوم بوتين شديدة الأهمية، خصوصاً أنَّ التشديد على أنَّ «الخيار الاستراتيجي للصين وروسيا على الساحة الدولية لا يتزعزع» ترافق مع اتفاقات طويلة الأمد لتزويد الصين بالنفط والغاز من روسيا.
وكما في مأساة ريان المغربي يلعب الإعلام دوراً كبيراً في الأزمة الأوكرانية. إعلام بوتين يعزف على وتر قديم وحساس لدى شعبه ومفاده أنَّ الغرب يغتنم كل سانحة لتطويق روسيا وإضعاف موقعها وتقليص دورها. وضع بوتين بلاده في موضع البلد القلق الذي يحاول التصدي لمشروع حصار عبر الناتو. وأغلب الظن أنَّ بوتين الذي يعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيواستراتيجية في القرن العشرين، يقود هجوماً مضاداً وعملية ثأر كبرى. وواضح أنَّ ما كان يقلق بوتين ليس اقتراب الناتو من حدود بلاده، بل اقتراب جاذبية الثورات الملونة التي يعتقد أنَّها تدار من السفارات الأميركية في انتهاك لسيادة الدول ومصالح الآخرين.
وعلى الضفة الأخرى، لعب الإعلام دوراً كبيراً في تضخيم الحديث عن الغزو الروسي المقترب وعن آلاف القتلى وملايين النازحين في حال قيام بوتين باجتياح كامل. الأكيد هو أنَّ الأزمة الأوكرانية بئر شديدة الخطورة. هل استدرج بوتين الولايات المتحدة إلى بئر يصعب عليها التورط فيها؟ وهل صار بوتين أسير البئر التي حاول استدراج الآخرين إليها؟