مفكرة القرية: بريد العاشقين

الدار البيضاء اليوم  -

مفكرة القرية بريد العاشقين

سمير عطا الله
بقلم : سمير عطا الله

هذه أيام الطفولة تقريباً، أواخر الأربعينات، أو آخرها تماماً، على وجه الضبط. وأمي وأنا وشقيقي منير، نسكن هذا الشتاء في منزل جدي لأمي. وهو بيت كبير وله شرفة ذات أعمدة منحوتة مثل شرفات القصور. لكننا هنا مؤقتاً، وبعد قليل سوف ننتقل، بالإيجار، إلى بيت من بيوت الفقراء.
كان لأمي صديقتان شقيقتان تأتيان لزيارتها من قرية مجاورة. وكان يحب إحداهما شاب لا يجرؤ «بالتقاليد» على التحدث إليها. فكان يدس في كتاب ورقة صغيرة ويكلفني حمله إليها. وكانت بدورها تدس رداً صغيراً في الكتاب وأعيده إليه. ومن دواعي الحشمة كان مفترضاً بالصبي الصغير أن يكتم السر. حتى هذه اللحظة. كبر العاشقان وتزوجا. ولم أعد أعرف شيئاً عنهما سوى أن الشاب دخل وظيفة سعاة البريد. ثم سمعت أن الابنة في العائلة توظفت هي أيضاً في وزارة البريد برتبة جيدة، وأنها «مهرة» في جمال أمها، وطلبة اليد الغالية بالطابور.
أين تنتهي الحكاية؟ عندما أقول لجنابك إن العالم صغير حقاً، أرجو أن تأخذني على محمل الجد. فأنا قد أزوق الحكاية لغرض السلوى، لكنني لا أخترعها. والحكاية تنتهي في سانت بطرسبرغ، وبقلم سيد روائيي الروسيا دوستويفسكي. صدقني.
في رائعته الرائعة «ليالي بيضاء» يروي أمير الرواة قصة جدة عمياء وحفيدتها التي تعيش معها. وبسبب الحاجة تؤجر الجدة غرفة في المنزل لقادم غريب. لكنها تظل على قلق دائم من أن تقع الحفيدة في حب المستأجر الشاب.
ذات مرة أحضر المستأجر مجموعة كتب فرنسية على الحفيدة تقرأها على جدتها. ازداد قلق الجدة: هل هي كتب غير أخلاقية يا ناستنكا؟ أبداً يا جدتي. إنها مؤلفات والتر سكوت! حسناً. حسناً. نص سليم حقاً. لكن ماذا نعرف عما يمكن أن يدس من أوراق بين هذه الكتب. أو حتى تحت الغلاف الخارجي؟ هل تأكدت. أه ليس من رسائل تحت الأغلفة؟
كما انتهت حكاية ساعي البريد في القرية، انتهت حكاية «المستأجر» في لينينغراد. لكن ليس قبل أن يحمل دوستويفسكي مصباحه ويجول به عبر النفس البشرية الضعيفة. وعلى طريقته في الإثارة يدمر أعصابك قبل الوصول بك إلى الخاتمة التي لا تتوقعها. أو لعلك تتوقعها. أو لعلك لا تعرف معه ماذا تقرأ وماذا تتوقع.
كلما عدت إلى «ليال بيضاء» أتذكر يوم عملت، طفلاً، ساعي بريد لدى ساعي البريد العاشق. لم أحاول مرة أن أفض، أو أن أقرأ، الورقة المتغيرة في كتاب لا يتغير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مفكرة القرية بريد العاشقين مفكرة القرية بريد العاشقين



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:00 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

تبحث أمراً مالياً وتركز على بعض الاستثمارات

GMT 08:31 2018 الخميس ,20 أيلول / سبتمبر

سعر الدرهم المغربى مقابل اليورو الخميس

GMT 13:15 2015 الأحد ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

روماو يحدد قائمة لاعبي "الجيش" لمواجهة "المغرب الفاسي"

GMT 03:32 2017 الجمعة ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة توضح دور الخوف في عملية انقراض الحيوانات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca