مفكرة القرية: فيلق التقاعد

الدار البيضاء اليوم  -

مفكرة القرية فيلق التقاعد

سمير عطا الله
بقلم : سمير عطا الله

في الساحة مقعد حجري مستطيل، ملقى منذ سنين. عليه يرتاح، عند العصر، المحاربون القدامى. أربعة أو خمسة هاجروا إلى الأرجنتين وإلى ديترويت وإلى المكسيك وإلى البرازيل، وعادوا غير ميسوري الحال يمضون ما تبقى في سكون القرى وسكينة الأيام.
وكل ما عادوا به من علامات المهجر ومظاهر العالم الجديد هو قبعاتهم. لا يخلعونها في الصيف والشتاء خوف أن يخسروا هيبتهم وتميز المغتربين المغامرين عن الذين بقوا هنا، لا بحاراً أبحروا، ولا مراكب طلعت بهم أعالي المحيطات، ولا عجائب الدنيا مرت بهم وهم يعبرون الأدغال وغابات الأفيال.
ولا يسأم عائدو الساحة من تكرار الحكايات. ففي كل مرة يزيدون شيئاً عليها، وينسون شيئاً. وإذا بدت الحكاية رتيبة، أو غط النعاس على الراوي، تنبه فجأة وانتفض، وزاد فيلاً أو فيلين، وموجة أو موجتين، وأدخل على المشهد نسراً أو سرباً مفاجئاً من الحجال.
ولا قصص عن مغامرات عاطفية. الحشمة تمنع. ثم إن الرجال جميعهم كانوا قد تركوا عائلاتهم في الضيعة على أمل أن يرسلوا خلفهن عندما تستقر الأحوال ويرتاح البال. ولا حال استقرت ولا بال ارتاح، ولم يبق سوى جمع «ناولون» العودة، أي ثمن التذكرة.
ويكون هذا المقعد المستطيل في الانتظار. يودع ويستقبل. تمر به الفصول والثلوج والأمطار والظلمات وضوء القمر وهو في مكانه مثل صخر امرئ القيس الذي صادف في وجه السيل فحطه من علٍ.
يغيبون ويعودون. كل ما عدا هذه القرية الصغيرة، غربة. الريو وسان باولو وبوينس آيرس وماساتشوستس، غربة. إلا هذه الساحة ومقعدها الصخري وشجرتها الوحيدة ودكاكينها الثلاث التي تقفل ثلاثة أرباع السنة. هذه، وطن. ورجال الساحة يعرفون القليل من الشعر، خصوصاً منه ما يلائم الوضع، فيكررون دوماً الترديد مع الشاعر: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، وأهلي وإن ضنوا علي كرام.
إلى حد ما.
هناك المهاجرون الذين لم يعودوا. اغتنوا في الريو، وأثروا في ديترويت، وتمتعوا برقص التانغو في بوينس آيرس، ونسوا الساحة. وتلاشت في الذاكرة خيالات الطفولة. وصار أبناؤهم وأحفادهم الوطن الجديد والقديم. حتى أسماؤهم تغيرت، لكي لا يكونوا في غربة هنا. وصاروا يبررون حكايات الماضي في باب اللطائف والمسليات.
والساحة لم تتغير. منها تتفرع الطرقات الضيقة إلى البيوت القديمة. ومن البيوت القديمة يخرج عند العصر قدامى الساحة وحجر الاستراحة، كل يحمل حكاياته وملحها وبهارها. يذرها في طيات الغياب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مفكرة القرية فيلق التقاعد مفكرة القرية فيلق التقاعد



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 19:15 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 16:52 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تحرم الأهلي من رامي ربيعة في مباراة الإسماعيلي

GMT 23:44 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شمال الأطلنطي يحسم بطولة كأس الجامعات القطرية للرجال

GMT 15:27 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

التصميم المميز للزجاجة والروح الأنثوي سر الفخامة

GMT 08:49 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أليساندرو سارتوري يسرق الأنظار إلى "زينيا" بابتكاراته

GMT 12:55 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة منمبا في زنجبار تتمتع بمناظر طبيعية نادرة ورومانسية

GMT 04:30 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الإبلاغ عن العنف الجنسي يعصف بحياة السيدات في الهند

GMT 02:35 2017 الجمعة ,05 أيار / مايو

سيارة فيراري "275 غب" 1966 معروضة للبيع

GMT 05:29 2016 الأربعاء ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الصين تفتتح أفخم فندق سبع نجوم بتكلفة 515 مليون دولار

GMT 02:01 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 خطوات مميّزة للحصول على درجة علمية عبر الإنترنت
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca