بقلم : عاطف أبو سيف
استكمالاً للنقاش الماضي حول تطور وتوجهات النظام الدولي الجديد وانعكاس ذلك على القضية الفلسطينية، من المهم التأكيد أن الكثير من هذه التحولات والتوجهات لا علاقة لها بقدرة الفلسطيني، بل ترتبط أكثر بتغيرات جوهرية في طبيعة العلاقات الدولية والقيم التي تفرزها وتتحكم بها. ولعل استخدام كلمة «قيم» يثير الكثير من الفزع لأنه موضع شك حين يتعلق الأمر بالسياسة، لكن حتى في ظل غيابه من المهم تذكّر أن هذا الغياب هو بحد ذاته أحد مفاعيل «القيم» الخاصة بالنظام الدولي. إنه الغياب الذي دفع الفلسطينيون ثمنه غالياً حين تمت سرقة بلادهم ومنحها للآخرين. تأسس اندماج الفلسطينيين في النظام الدولي، ربما، في لحظة «اللاتوازن» التي وسمت مرحلة صعود الوطنية الفلسطينية في مرحلة النكبة من انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة.
لحظة اللاتوازن تلك عنت أن النظام الدولي الذي بات الولوج له جزءاً من أهداف الثورة الفلسطينية صار مستقراً ومتصالحاً بل مشترطاً لفكرة وجود إسرائيل ولو كان ذلك على حساب الحقوق الفلسطينية. وعليه تم قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة دون تحقيق القرار 181 الذي اشترط وجود دولة عربية في فلسطين إلى جانب الدولة اليهودية. بل تم غض الطرف عن هذا الشرط وقبول مزاولة الدولة العبرية ولايتها على أراض تعتبر وفق القرار 181 جزءاً من أراضي الدولة العربية. بعبارة أخرى تنازل النظام الدولي عن قرارته من أجل أن تصبح إسرائيل عضواً فيه.
وبقدر ما كان هذا ضرورياً للفلسطينيين بقدر ما كان مساساً بأكبر المساحات التي كان يمكن لهم أن يناورا فيها والمتعلقة بحتمية وجود دولتهم؛ لأن وجود تلك الدولة بات رهناً بوجود إسرائيل والأكثر خطورة بموافقتها. وربما أن تناول الأفكار وفق نمط محدد يخرجها من قوالبها الأصلية. وبعبارة أخرى فإن تناول الفلسطينيين وتقبلهم لفكرة حل الدولتين أبعدهم عن الشيء الأهم في تلك الفكرة بالنسبة لهم والمتعلق بدولتهم، فهذه الدولة لا يجب أن تنشأ وفق إرادة شعبية حرة، بل وفق اتفاق يتم التوصل إليه.
وفي ظل اختلال التوازن الحقيقي في علاقتهم بإسرائيل، فإن تحقق هذا يبدو أكثر تعذراً مع الزمن، بل في أحسن الأحوال يتراجع ويتقلص حتى يصبح مثل «الكيكة» التي تخبزها إسرائيل. من هنا فإن هذا اللاتوازن أيضاً أضر بالمصالح التي تم بعث الوطنية الفلسطينية المعاصرة من أجلها. ربما كان يصعب تخيل وقوف الفلسطينيين خارج منظومة النظام الدولي؛ لأن هذا كان يمكن له أن يضر بمصالحهم أيضاً، لكن كان يمكن معالجة الأمر بقدر أكبر حين بدأت الوطنية الفلسطينية تنعطف لتقبل فكرة حل الدولتين. كان يجب إسناد هذه الموافقة بقرارات دولية تسبق وجود إسرائيل مثل قرار التقسيم. كانت المعضلة في «البراديم» وسبل تحقيقه. أيضاً سيظل متعذراً أن يتم النظر للماضي بأدوات تحليل راهنة. لكن المؤكد أن الفلسطينيين كانوا أمام الانصهار والانزياح الأبدي أو البحث عن مكان يقيهم آثاراً أكثر كارثية.
في تلك اللحظة لم يكن ثمة مفاضلة، فالعالم منقسم بين معسكرين والنظام الدولي تهمين عليه قوتان. المعسكران لا ينفيان وجود إسرائيل، بل إن بعض دول المعسكر الشرقي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، وفي أحسن الأحوال لا تصوّر لها للحل إلا بتقبل الفلسطينيين لفكرة وجود إسرائيل.مع تفكك هذه المنظومة وتحول النظام الدولي من نظام القطبين إلي نظام متعدد الأقطاب مع قوة «قصوى»، باتت إسرائيل جزءاً أساسياً من مكوناته الجديدة. هيمنت على سلم أولويات النظام الجديد أفكار مثل «محاربة الإرهاب»، وحماية الدولة الآيلة للسقوط والتدخل الإنساني والدمقرطة وأشياء كثيرة كلها نجحت إسرائيل في التسلل عبرها لأجندة النظام الدولي الجديد وأن تكون لاعبة حيوية فيه.
بل إن بعض هذه القضايا تحولت إلى اهتمامات إقليمية عنت أن إسرائيل وبعض الدول في المنطقة التي كانت عدوة أمس، يتقاطعان في معالجة آثارها. من هنا فإن إندماج إسرائيل في الإقليم بات أمراً واقعاً، ولم يعد ثمة حاجة للخطاب العبري أن يبرره؛ إذ إن أهداف السياسة الدولية التي قادتها واشنطن منذ انهيار جدار برلين عملت على ذلك. ولم يكن مؤتمر مدريد للسلام مجرد صورة فوتوغرافية للذكرى، بل إنها عكس توجهات مرحلة جديدة لن تتوقف حتى تقيم تل أبيب علاقات مع بعض الدول العربية.
عكس هذا نفسه في مقولات السياسة الخارجية الإسرائيلية: من نظرية بيريس حول الشرق الأوسط الجديد حتى دبلوماسية التطبيع وفق المصالح التي مارسها نتنياهو بكل وضوح وببعض النجاح. وما بين تصورات بيريس لعالم شرق أوسطي جديد وسياسة نتنياهو التصالحية مع المحيط تخلق واقعاً دولياً حدث فيه الكثير من التحولات التي قامت إسرائيل باستغلالها من أجل تأمين مصالحها. تغيرت المصالح وتبدلت مفاهيم التحالفات. فلم يعد الإقليم والجغرافيا هما من يحددان تخوم وأشكال التحالفات، كما أن مفهوم المصلحة اختلف، كما بات من الممكن أن تنفصل الهوية الأيديولوجيا عن الممارسة، فالمواقف السياسية تأتي لاحقاً لتطور العلاقات الاقتصادية.
نظرية التأثيرات التدريجية التي انتقل فيها الاتحاد الأوروبي من تجمع اقتصادي إلى كائن سياسي هي ذاتها التي عملت وفقها إسرائيل في تأمين وتوثيق علاقاتها مع الدول المختلفة اقتصادياً دون أن تشترط تحولاً في مواقفها السياسية؛ لإدراكها أن المصالح الاقتصادية ستفرض هذا التحول لاحقاً. هذا ما يحدث مع الهند مثلاً. إلى جانب ما تقدمه إسرائيل من مساعدات في أفريقيا خاصة بمجال الزراعة؛ لتأمين التحولات في سجل تصويت دول القارة. بعض هذه الدول إسلامية ويتم التفريق بين العبادات وبين المواقف السياسية وكأن الصراع على المسجد الأقصى لا يهم المسلم بشيء؛ لأن جزءاً من تقديم إسرائيل لنفسها لهذه الدول أنها تضمن حرية العبادة للجميع، مثل أن يقوم وزير دولة إسلامية بزيارة المسجد الأقصى بدعوة من الحكومة الإسرائيلية.