محطات سريعة في تاريخ الإنسان الطويل

الدار البيضاء اليوم  -

محطات سريعة في تاريخ الإنسان الطويل

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

احتار الناس بشأن كيفية بناء الأهرامات، ومن بين النظريات لتفسير تلك المعجزة، أنَّ من بناها أناسٌ ذوو بأسٍ شديد، طوال القامة، لدرجة أن الرجل الواحد (أو بضعة رجال) لديهم مقدرة على رفع الحجارة، وصفّها على النحو الذي نراه اليوم، علماً أن عدد حجارة الهرم الواحد حوالي المليون حجر، ووزن كل حجر يبلغ 2 طن! وإذا تخيلنا الصورة يعني أن طول الشخص ينبغي أن يزيد على العشرة أمتار، وأن وزنه سيتجاوز وزن الإنسان العادي بعشرات الأضعاف!!
وفي رواية شعبية مأثورة أنَّ طول آدم أبو البشر كان ستين ذراعا (27 مترا)، وعرضه 25 ذراعاً.. ما يعني أننا نتحدث عن عمارة سكنية مكونة من عشرة طوابق.. فأي كهف سيؤويه؟ وأي هيكل عظمي يستطيع حمل هذا الوزن الضخم؟ وكم سيبلغ حجم القلب الذي سيضخ الدم في هذا الجسد المترامي الأطراف؟ وما هو مقدار الطاقة التي سيحتاجها؟ في هذه الحالة نستطيع تخيل حجم معدته بما يعادل حجم مطبخ مفتوح على الصالون! فأي كمية طعام ستملأ هذه المعدة الهائلة ثلاث مرات يومياً!! ونستطيع تخيل مشيته وهو يدوس على الأشجار كما لو أنها حشائش! وتخيله وهو يصطاد الغزلان بالتقاطها بيديه.. وهكذا..
طبعاً، أي عالم (أو حتى مبتدئ) في الطب أو في البيولوجيا أو الإنثروبولوجيا لا بد وأن يسخر من هذا الطرح.. ومن ناحية ثانية، جميع الآثار الأركيولوجية تؤكد بالأدلة القاطعة أن جميع مكتشفات هياكل وجماجم وعظام الإنسان منذ أقدم العصور كانت تساوي أو أقصر من قامة الإنسان الحديث.. وكذلك مدافنهم، وكهوفهم، وبيوتهم كانت مشابهة لبيوتنا الحالية من حيث الحجم، والمقارنة نفسها تصلح للأدوات المستخدمة. أما صورة هيكل العملاق الهائل فهي مفبركة، ولا تنطلي إلا على السذج.
وحسب ما يقدمه علم الأركيولوجيا، فإن أقدم هيكل عظمي شبه كامل عُثر عليه في أثيوبيا لسيدة (أطلقوا عليها اسم الجدة لوسي) تعود إلى 3.2 مليون سنة.. وطولها بحدود المتر ونصف.. وفي الهضبة الإفريقية، مهد البشرية الأول، عثر العلماء على آلاف الهياكل والعظام البشرية، أقدمها لا يتجاوز عمرها200 ألف سنة. وجميعها أصغر من حجم الإنسان الحالي بقليل.
والهياكل البشرية (أو أجزاؤها) والتي عثر عليها في كافة أرجاء العالم (بما فيها جماجم إنسان نيانتردال) جميعها تنتمي لأزمنة أقدمها بحدود 200 ألف سنة.. ما يعني أن هذا هو عمر الجنس البشري الحديث (الهوموسابينس)، وأنه منذ ذلك التاريخ قد أخذ شكله الحالي؛ من حيث طول القامة، وبنية الجسد، تركيبته الفسيولوجية، وحجم جمجمته، ووزن دماغه.
العالم «جاكوب برونوفسكي» في كتابه «التطور الحضاري للإنسان» يُقسم تاريخ الإنسان إلى قسمين منفصلين: تاريخه البيولوجي، وفيه سرد للخطوات التي سارتها الرئيسيات العليا حتى انتهت بالإنسان. وتاريخه الحضاري، وفيه قصة ارتقائه من قبائل للصيد وجمع الثمار إلى صانع للحواسيب وصواريخ الفضاء. القسم الأول تطلب نحو 30 مليون عام ليصل إلى أشباه الإنسان، وسبعة ملايين عام لتتطور خلالها أشباه البشر إلى بشر.. ثم إلى جنس «هوموسابينس» في المئتي ألف سنة الأخيرة.
القسم الثاني تضمن حكاية الإنسان الحديث، التي بدأت خلال الـ 60.000 سنة الأخيرة، وتمثل قصة حضارته ما يعادل عُشر عمره قبل التحضر (إذا اعتبرنا أن عمر التحضر الإنساني والذي بدأ في العصر الحجري النحاسي بحدود الستة آلاف عام)؛ فالبشر قبل نحو عشرين ألف عام مثلاً لم يكونوا أكثر من مجموعات هائمة في البراري تبحث عن طعامها، لا تعرف سوى صنع الأدوات الحجرية، وتعقُّب قطعان الحيوانات لصيدها، كما تفعل بعض القبائل البدائية الآن في مجاهل الأمازون أو في أعماق الغابات الاستوائية، مع بعض الفروقات البسيطة. (إسحق عظيموف، قصة نشوء الإنسان).
مع أن مكتشفات أثرية عديدة تشير إلى وجود حواضر عمرانية تعود إلى عشرة آلاف سنة ق.م، منها مثلا «تل الكرش»، في جنوب تركيا، وعمرها 12 ألف سنة، «وتل أريحا»، وعمرها بحدود عشرة آلاف سنة، دون أن ننسى رسومات فنية بدائية لحيوانات على جدران الكهوف اكتُشفت في فرنسا وليبيا وغيرها تعود لثلاثين ألف سنة خلت، تدل على نزعة روحانية طوطمية.. بيد أن تلك المكتشفات ليست لحضارات ودول؛ بل لتجمعات بشرية صغيرة.. تلك التجمعات بدأت بعد انحسار العصر الجليدي الأخير (أي قبل نحو 12 ألف سنة)، واحتاجت تلك الجماعات البشرية التي كانت تعيش حياة التنقل آلاف السنين حتى تكتشف الزراعة وتبدأ حياة الاستقرار.
الحضارات الحقيقية بدأت على ضفاف الأنهار وخاصة في منطقة الهلال الخصيب، مع توسعته قليلا ليشمل أجزاء من إيران وتركيا ومصر، (وأيضا على ضفاف أنهار الهند والصين)؛ حيث كان النهر يوحد الأنماط المعيشية للساكنين على ضفافه (أنماط الزراعة، وأدوات ووسائل الإنتاج، بما يسمح بنشوء ثقافة متشابهة) ما هيأ المجال لتكون الدول المركزية، وكانت مصر أول دولة مركزية في التاريخ، بينما مثلت الحضارة السومرية أقدم حضارة بشرية بدأت قبل المصرية بنحو قرنين.
وكل الآثار العمرانية العظيمة (وحتى البسيطة) تنتمي إلى عصور ما بعد التاريخ (أي ما بعد الألف الثالثة قبل الميلاد)، مثلا الأهرامات بنيت قبل أربعة آلاف سنة ونيف، سور الصين العظيم، والبتراء قبل نحو ألفي سنة، حدائق بابل قبل 2500 سنة.. وهذه تعتبر أقدم وأهم الآثار المكتشفة.
الحضارات الصينية والهندية وحضارات وادي الرافدين ووادي النيل وحضارات أميركا اللاتينية أقدمها لا تتجاوز الخمسة إلى ستة آلاف سنة.. قبل ذلك، أي قبل اكتشاف الزراعة لم تكن حضارة.
تلك محطات سريعة مثبتة بأدوات العلم، من الضروري معرفتها لنفهم ماضينا، ونصنع مستقبلنا، بمنهج علمي تاريخي بعيدا عن الخرافات والأساطير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محطات سريعة في تاريخ الإنسان الطويل محطات سريعة في تاريخ الإنسان الطويل



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca