سأتخلص من كل من لا يشبهني

الدار البيضاء اليوم  -

سأتخلص من كل من لا يشبهني

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

مع بدء انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فتحتُ حساباً على «فيسبوك» لأشرح على صفحتي أفكاري العظيمة، وآخر على «تويتر» للإعلان عن مواقفي الحاسمة من الأحداث، وآخر على «أنستغرام» لنشر صوري الجميلة.. ولأنني دائماً على صواب، وأتمسك برأيي مهما كان الثمن، لا أقبل أن يتهمني أحد بالتورم الذاتي، أو الغرور.صرتُ أقبل أي طلب صداقة، حتى امتلأت المساحة المخصصة لعدد الأصدقاء، ثم فاضت بالمتابعين.. وكنتُ إذا قرأتُ منشوراً لأي شخص، لا بد أن أدلي برأيي، وغالباً ما كنت أعترض، وأسخّف الرأي الآخر.. فقد اكتشفت أن معظم الناس سطحيون (قبل أن يكتشف ذلك أحد المستشارين)، ثم صرتُ أضيق ذرعاً بالآراء المخالفة، وصارت الشاشة الزرقاء ساحة حرب ضروس، أخوضها بكل انفعال على جبهات متعددة.

الموضوع لا يحتمل المزاح، وهذه المرحلة ليست للاجتهادات المترفة، ولا يجوز لي أن أترك الساحة للغوغاء والمضللين والجهلة.. وهكذا تصاعدت حربي مع كثير من الأصدقاء المفترضين، حتى صارت مصدر قلق وكآبة.
قررت أن أتخلص من كل من لا يعجبني، كل من اعتبرته جاهلاً، أو طابورا خامساً، أو عميلاً، أو سحيجاً، أو منفذاً لأجندات خارجية، أو مطبعاً، أو مستشرقاً.. هؤلاء جميعاً لا يجوز الاكتفاء بعمل «بلوك» عليهم، بل يجب فضحهم، ومقاطعتهم، حتى أن بعضهم يستحق السجن المؤبد، أو الإعدام.. ذلك، حتى نحصن جبهتنا الداخلية، ونبني مجتمعنا النقي الطاهر.

لم يلزمني وقت طويل في البحث والتفكير والتأمل، فسرعان ما تبين لي الصادق من الكاذب، وبسهولة فائقة ميزت بين الوطني والخائن، وبين المؤمن والكافر.. فمن كان مع النظام السوري، فهو حتماً دموي ومستبد.. ومن كان مع المعارضة فهو داعشي أو أميركي، ومن لزم الحياد والصمت فهو سلبي وجبان.من كان مع قطر، فهو عميل للصهيونية، وربما كان جاسوساً لقاعدة العيديد الأميركية، ومن كان مع الإمارات فهو شريك في التطبيع، ومع «صفقة القرن»، ومن كان مع السعودية، فهو شريك في قتل أطفال اليمن وتجويعهم.. ومن كان ضد دول الخليج عامة، فهو يتنكر للمساعدات التي قدموها، ويضرب العلاقات الأخوية مع دولٍ طالما دعمت الفلسطينيين، ويساهم في تعميق كراهية تلك الشعوب للفلسطينيين.. ومن كان مؤيداً لها فهو منتفع، وانتهازي، ومتواطئ.

ومن كان مع تركيا، فهو عدو للعروبة، أو إخونجي، ومن أيد نموذج أردوغان كتجربة إسلامية، فهو علماني فاسق، لا يفقه الإسلام، ومن رفض تجربته في الحكم فهو متخلف ومتشدد.من كان مع إيران فهو مجوسي، شيعي، ومن الروافض.. ومن كان معارضاً لها، فهو عدو لمحور المقاومة، ويقف إلى جانب محور الانبطاح والاستسلام، ومن النواصب.. من أيد «حزب الله» فهو دموي فاشي طائفي.. ومن عارضه فهو انهزامي وجبان.أيد مرسي، فهو إخواني، ظلامي، رجعي.. ومن عارضه فهو فلول، ومن مخلفات الدولة العميقة، وربما كان من الكفرة والمضللين.. ومن أيد السيسي فهو انقلابي، مستبد.. ومن عارضه فهو إرهابي، وداعم للجماعات السلفية في سيناء.. من أيد كامب ديفيد فهو استسلامي خائن، ومن عارضها فهو غير واقعي، وطوباوي، ولا يريد الخير لمصر.

من انتمى لـ»فتح»، أو أيد السلطة الوطنية، فهو مجرد موظف منتفع، أو سحيج، أو فاسد، ويقدس التنسيق الأمني.. ومن عارضها فهو يريد تدمير المشروع الوطني، ويعمل لأجندات خارجية، واحتمال أن يكون حمساوياً.
من أيد «حماس» فهو انقلابي، يعمل على تأبيد الانقسام، وهو بالتأكيد رجعي وظلامي، ولا تهمه فلسطين.. ومن عارضها، فهو فاسق، وعدو للإسلام، وربما يكون كافراً، أو خائناً، وبالتأكيد من جماعة التنسيق الأمني.
من يوافق على حل الدولتين، فهو مطبع، ومتورط في بيع فلسطين، وخائن لدماء الشهداء.. ومن يرفضه فهو خارج العصر، ولا يفهم في السياسة، وليس واقعياً، ويريد جر الفلسطينيين إلى حرب مفتوحة خاسرة حتماً مع عدو متفوق ومدجج بالسلاح.

من يؤمن بالسلام فهو استسلامي انهزامي جبان، متنازل عن فلسطين التاريخية.. ومن يرفض السلام، فهو عدمي، لا إنساني، وعنصري، ونازي، ويريد قتل كل اليهود، وإلقائهم في البحر.أي فنان، أو أديب أو فريق رياضي يزور فلسطين، ويشارك في فعاليات معينة تحت حراب الاحتلال فهو مطبع، وعدو للفلسطينيين.. وكل من يرفض زيارة فلسطين، فهو تطهري، نرجسي، متخاذل، وليس صديقاً للفلسطينيين، ولا يؤيد قضيتهم.كل جماعات الإسلام السياسي متخلفون، ظلاميون، سلفيون، رجعيون، إرهابيون، يعيشون في التاريخ، منفصلين عن الحاضر، ويريدون تدمير المستقبل.. وكل من ينتقد الإسلام السياسي، فهو فاسق، عدو للإسلام، ماسوني، جاسوس أميركي، مضلَّل، علماني.

كل اليساريين شيوعيون كفرة.. وكل اليمينيين إمبرياليون، انبطاحيون، يمثلون البرجوازية العفنة.من أيد «سيداو» فهو بلا شرف، ويريد تفتيت المجتمع، وتسويق ثقافة الغرب.. ومن يرفضها فهو رجعي، متزمت، ماضوي.
جماعة القصيدة النثرية، متآمرون على اللغة، وضد الأصالة.. جماعة الشعر العامودي، لا يتذوقون الجمال، ولا يؤمنون بالحداثة.من تدخل في أزمة حسن شاكوش فضولي متطفل.. ومن لم يحدد موقفاً فهو زئبقي، منافق..
وهكذا، بعد فترة قصيرة، كنت قد تخلصت من كل من لم يعجبني، ومن كل من لا يشبهني، وحذفت الآلاف من المطبعين والخونة والانهزاميين والرجعيين والكفرة.. وفي الحقيقة لم يتبقَّ لي صديق واحد.

هذا لا يضرني، فأنا سأظل متمسكاً بمبادئي، رافضاً أي تنازل، ولن أكون تابعاً لأحد، ولا جزءاً من قطيع أغنام، ولن أنزل إلى مستوى الدهماء والغوغاء، ولن أكون جزءاً من النخب والإيليت، وأدعياء الثقافة.هذا لأني متميز.. جداً، أو يمكنني القول: إنّي العبقري الوحيد في العالم.. كيف لا، وقد طورت نظريتي الخاصة منذ كنت طالباً في المدرسة، ولم يدهشني أن آرائي كانت دوماً دقيقة، وأني أستشرف المستقبل أفضل من زرقاء اليمامة، وأعرف مجاهل التاريخ أكثر من هيروديت نفسه، وأحلل الواقع أعمق من كل المحللين الذين يظهرون على الشاشات.. أنا الخبير الإستراتيجي في كل شيء.. أنا النقي الطاهر.. أنا وحدي من سيدخل الجنة، ربما أشفع لكم يوم القيامة أيها الأوباش الرعاع السطحيين.. وربما لا أفعل، فأترككم لجهنم وبئس المصير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سأتخلص من كل من لا يشبهني سأتخلص من كل من لا يشبهني



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 12:41 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس فتتأثر بمشاعر المحيطين بك

GMT 09:52 2018 الإثنين ,13 آب / أغسطس

أمطار صيفية تعزل دواوير ضواحي تارودانت

GMT 07:59 2018 الأحد ,15 تموز / يوليو

"بورش" تحتفل بالذكرى الـ70 لسيارتها الأولى

GMT 16:15 2018 الجمعة ,29 حزيران / يونيو

سامح حسين يكشف عن الأفيش الأول لـ"الرجل الأخطر"

GMT 08:36 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

النفط ينخفض مع تهديد الصين برسوم جمركية على الخام

GMT 05:34 2018 الإثنين ,11 حزيران / يونيو

تعرف على أبرز علامات ظهور "ليلة القدر"

GMT 23:49 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

الليمون الحل النهائي للقضاء على "قشرة الشعر"

GMT 15:13 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

تغلبي على الخوف من عيوب جسدك مع ارتداء الحجاب
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca