ملاحظات على هامش رحيل حسني مبارك

الدار البيضاء اليوم  -

ملاحظات على هامش رحيل حسني مبارك

عبير بشير
بقلم : عبير بشير

ودّعت مصر الرئيس الأسبق حسني مبارك في جنازة عسكرية، تم فيها تقديم أوسمته التي أْعيدت إليه بعفو رئاسي في قضية القصور الرئاسية، وعُومل الراحل كأحد أبرز قيادات القوات المسلحة المصرية، وأُعلن الحداد لثلاثة أيام في كامل أرجاء البلاد.لم يكن متوقعاً على الإطلاق أن يخلف الداهية الكبير أنور السادات رفيقه عبد الناصر، ولا توقع أحد بالتأكيد أن يُقتل السادات على منصة 6 أكتوبر، ويخلفه نائبُه الفريق طيار حسني مبارك.
ولم يكن مبارك نفسه يحلم يوماً بأن يكون رئيساً لمصر، فعندما استدعاه الرئيس السادات ليعينه نائباً له، اعتقد الفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية أن الرئيس السادات سيعينه رئيساً لشركة مصر للطيران، وكان ذلك أقصى طموحه.

ولكن على كل حال، لم يكن حسني مبارك رئيس الصدفة، كما قال عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه من "من المنصة إلى الرئاسة"، فللأقدار والتاريخ ترتيب خاص بها.قضى مبارك أكثر من ست سنوات نائباً للرئيس السادات، وتولى كثيراً من الملفات السياسية الداخلية والخارجية، وكذلك الأمنية، وتابع تفاصيل العمل اليومي لرئاسة الجمهورية، فالسادات كان لا يحب الانغماس في التفاصيل، وهذا ما أهل مبارك، لمهام الرئيس، عندما حانت الساعة.

لقد بدأ مبارك حكمه الذي استمر ثلاثين عامًا، بنفَس إصلاحي واضح حين أفرج عن المعتقلين السياسيين، ودعم استقلال القضاء، وأعطى هامشًا لحرية الصحافة والإعلام طوال حكمه، وربما كان ذلك أحد أسباب بقائه الطويل في السلطة وليس سببًا في سقوطه، وخصوصاً أن مبارك لم يحكم بالحديد والنار، وتعامل مع الآخر في الداخل المصري بمرونة محسوبة، وإن لم يلغِ العصا بشكل كامل.لكن محاصرة الأحزاب السياسية في مقارها كان خطأ مبارك الاستراتيجي، لأن ذلك سمح للتيارات الدينية أن تتعملق شعبياً. كما أن مبارك تعامل مع دول حوض النيل، كأنها حديقته الخلفية، وأدار الظهر إليها لصالح رغبته العارمة بلعب دور إقليمي، وهذا ما قاد لاحقا إلى الأزمات التي تعاني منها مصر ومنها أزمة سد النهضة في أثيوبيا.

على كل حال، لم يكن حكم مبارك كله خراباً، فقد حقق إنجازات كثيرة في الاقتصاد والمدن الجديدة. والمجتمع والإيجابية الأكبر في حياته هي دورُه كقائد للقوات الجوية في حرب أكتوبر، فقد اختاره عبد الناصر عقب هزيمة 67، وهو في رتبة عقيد، لكي يعيد بناء سلاح الجو الذي دُمر.لقد اتسم حكم مبارك بهدوء وحذر في سياساته الداخلية، فلم يَمِل إلى القرارات الفجائية ولا التغييرات الجذرية، إنما حافظ على خيط المواءمات مع كثير من الظواهر: النزاهة والفساد، الكفاءة وانعدامها، النظام والعشوائية، حتى دخل مرحلة البطء الشديد في اتخاذ القرارات، والتي أوصلته إلى مرحلة الجمود وعدم الرغبة في التغيير.

الاقتصاد كان المعركة الأصعب في مشوار مبارك، فقد عانت مصر من الإرث البيروقراطي العقيم، وتبني الاقتصاد الاشتراكي، وحاولت حكومات مبارك تفكيكه ونجحت جزئياً، ولكن القطط السمان، وتزاوج المال بالسلطة، كانت أبرز أخطاء مبارك في نهاية عهده، الذي كان مكبلاً بالمرض والعجز ولم يعمل على ترتيب خلافته على نحو يليق بتاريخه، وببلد بحجم مصر، ولقد كشفت أحداث ثورة يناير، حجم الترهل في القيادة المصرية، وبطء الأجهزة التي لم تنجح باستقراء الوضع، والتعاطي بكفاءة مع المتغيرات العاصفة، فجاء خروجاً مذلاً للرئيس.

في الجزء الأول من مذكراته "كِتَابِيَهْ"، تطرّقَ عمرو موسى، وزير الخارجية، في عصر مبارك، طوال فترة التسعينيات، عن "حسني مبارك" الذي رأى فيه موسى رجلاً وطنياً ومصرياً حدقاً، ومنوفيّاً بكل معنى الكلمة، لم يكن من السهل خداعه، وبالطبع كان يعلم بحجم الفساد المستشري. ويمضي موسى في حديثه عن مبارك: "كان شخصية لطيفة مُحببة، له قفشاته الطريفة..". وعن سياسته الخارجية، يقول موسى: "ترك لمعمّر القذّافي التنقّل على فرسه بين ممالك أفريقيا، ولم يقترب من فناء لبنان، مدركاً مدى حساسية الموضوع بالنسبة إلى سورية".

لقد قرر المنوفي "الحدق" ألا يأخذ مصر إلى أي مكان. لا يساراً ولا يميناً. وأن يعيد إليها عافيتها بإراحتها من الشدّ والجذب والصراعات والحروب، فقد كان حكيم الشرق الأوسط.لكن طول حكم مبارك لمصر، جعلته يعتقد أنه مصر، ومصر هو، بل صار مقتنعاً بأنه هو مفتاح الاستقرار لمصر، ومن بعده ابنه. وعندما يقع الطيار "الحدق" في خطأ الحسابات، يحدث السقوط أو التنحي، ومن بعده أخذ ينتقل من جلسة محكمة إلى أخرى وهو على سرير متحرك.لقد كان مشروع التوريث، الضربة القاضية التي أتت على حكم مبارك.

فموضوع توريث ابنه جمال خلق بدايات غضب في الشارع المصري، وهمساً يرتفع في صفوف قادة الجيش الذي انحاز إلى الإرادة الشعبية التي خرجت زحفاً في يناير وبدأ ستار النهاية بلونه الأحمر الصاخب.
لكن سيذكر التاريخ، أن الطيار والقائد الوطني حسني مبارك، رفض أن يدخل في لعبة الدم، وتنحى عن السلطة، حقناً لدماء المصريين، وكان بمقدوره خلط الأوراق، وهدم المعبد على رؤوس الجميع، كما حصل في بلدان الخريف العربي. ويكفي مبارك أنه ترك جيشاً وطنياً، انحاز إلى شعبه، ولم ينحَز إلى رئيسه، على عكس دول أخرى، تم هندسة الجيش، والأجهزة الأمنية، لأن تكون مجرد ذراع تنفيذية لحماية النظام ورئيسه.

قد يهمك أيضــــــــــًا :

إدلب آخر قطعة في الكعكة السورية

رفيق الحريري «من أول وجديد»

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملاحظات على هامش رحيل حسني مبارك ملاحظات على هامش رحيل حسني مبارك



GMT 19:04 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية

GMT 18:58 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

كيف غيّر «كوفيد» ثقافة العمل؟

GMT 18:52 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

ليس بينها وبين النار إلاّ (ذراع)

GMT 18:21 2022 الخميس ,14 إبريل / نيسان

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

GMT 09:38 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

«بوليساريو» الداخل..!

GMT 09:46 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

برودكوم تعرض الاستحواذ على كوالكوم مقابل 130 مليار دولار

GMT 01:09 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

Poison Girl Unexpected الجديد من "ديور" للمرأة المفعمة بالأنوثة

GMT 18:56 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

الأهلي يخطف كأس السوبر بعد الانتصار على المصري بهدف نظيف

GMT 18:18 2018 الجمعة ,12 كانون الثاني / يناير

تامرعبد المنعم يصالح محمد فؤاد في حفلة زفاف

GMT 21:31 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

مدينة تاوريرت تستقبل حافلتين من اليهود

GMT 04:47 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

توقيف أحد مهربي المواد المخدّرة في مدينة بركان

GMT 23:59 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مواهب صغيرة تُشارك في الموسم الثاني لـ "the Voice Kids"

GMT 21:14 2015 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

فوائد عصير البطيخ المر في القضاء على الخلايا السرطانية

GMT 19:59 2017 الجمعة ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

دار "LAVINTAGE" تغازل الباحثات عن الأناقة في مجوهرات 2018

GMT 06:17 2016 الثلاثاء ,05 إبريل / نيسان

دور المثقف في المجتمعات العربية
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca