حين تُجعل السياسة صنواً للقتل

الدار البيضاء اليوم  -

حين تُجعل السياسة صنواً للقتل

حازم صاغية
حازم صاغية

يستطيع السياسيّ في نظام برلمانيّ أن يقول: «سوف أترشّح لرئاسة الجمهوريّة فإن لم أفزْ اعتزلتُ السياسة»، ويستطيع أن يقول: «سوف أترشّح لذاك المنصب فإن لم أفز أعدتُ النظر بالاستراتيجيّات التي اتّبعتها». يستطيع أن يقول أشياء كثيرة ما عدا ذاك الشيء الذي قاله، قبل عشرة أيّام، جايير بولسونارو. فرئيس البرازيل رأى أنّ مستقبله مفتوح على ثلاثة احتمالات: إمّا السجن أو الموت أو الفوز في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة.

قد يقال أنّ هذه اللغة تستدرج الدراميّة القصوى كي تعبّئ مؤيّديها وأنصارها. هكذا يدركون أنّ انتخابات العام المقبل جدّيّة جدّاً، وقد يهبّون لإنجاد زعيمهم بحيث لا يتعرّض للقتل أو السجن.
مع ذلك تبقى اللغة غريبة، سيّما حين تصدر عن قائد وصل إلى رئاسة الجمهوريّة عبر الانتخاب الشعبيّ. فلغة بولسونارو تضع السياسة على حدود القتل، كما تضع القتل على حدود السياسة، علماً بأنّ الأخيرة مصنوعة لتفادي القتل والقتال.

إلاّ أنّ بولسونارو مؤهّل لذلك: آراؤه في السياسة عسكريّة أكثر ممّا هي سياسيّة، وحربيّة أكثر منها سلميّة. فهو أصلاً ضابط متقاعد، سبق أن اتُّهم في شبابه بزرع عبوات في إحدى الوحدات العسكريّة. وحين خاض معركته الرئاسيّة اختار أن يكون نائبه جنرالاً متقاعداً آخر هو هاملتون موراو. وعندما شُكّلت حكومته تولّى الضبّاط وزارات أساسيّة فيها.لكنْ في غضون تلك المعركة الانتخابيّة، حدث أمران غير عاديّين: فبعد الدورة الأولى، وكان هو الفائزَ الأوّل فيها، ألقى خطاباً أمام الآلاف من مؤيّديه في ساو باولو، فهدّد بأنّه سيعتقل أو يطهّر أو يقتل «الحمر» الشيوعيّين وأعضاء حزب العمّال الاشتراكيّ. ثمّ، وفيما كان يوالي حملته، ظهر من يطعنه بسكّين في بطنه. يومذاك وُجد من يقول إنّ الطاعن مختلّ عقليّاً، يعاني اضطراباً «هذيانيّاً وفصاميّاً»، كما ظهر من يربط الحادث البشع بعسكرة الحملة الانتخابيّة التي دشّنها نشاط بولسونارو وخطاباته وتصريحاته.

امتدح عدّة مرّات الانقلاب العسكريّ في 1964 ضدّ الرئيس جواو غولار، والذي قامت بنتيجته ديكتاتوريّة عسكريّة استمرّت حتّى 1985، واشتُهرت بانتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان. مرّةً اعتبر أنّ ذاك العهد هو المرحلة «المجيدة» في تاريخ البرازيل. مرّةً أخرى قال إنّ عيب تلك الديكتاتوريّة أنّها كانت تعذّب لكنّها لا تقتل.

امتدح نظام بينوشيه في تشيلي، الذي أودى بحياة 3000 مدنيّ، وقال إنّه كان ينبغي أن يقتل أكثر ممّا فعل. ولم تردعه، هو «اليمينيّ»، «يساريّةُ» هوغو شافيز في فنزويلاّ، فامتدحه في 1999 ورأى فيه «أملاً لأميركا اللاتينيّة».من آرائه أيضاً دفاعه عن التعذيب بوصفه «ممارسة شرعيّة» وشكلاً ضروريّاً من أشكال العمل السياسيّ، وحماسته لتمرير تشريع يجيز السجن مدى الحياة. في 1999، وكان عضواً في مجلس الشيوخ، قال في مقابلة تلفزيونيّة شهيرة إنّ الطريقة الوحيدة لـ «تغيير» البرازيل هي «قتل ثلاثين ألف شخص بدءاً بفرناندو هنريك كاردوسو» الذي كان يومها رئيس الجمهوريّة. ومع أنّ دستور البرازيل الصادر في 1988 يرفض حكم الإعدام، دافع بولسونارو عنه مراراً. أكثر من هذا: إبّان عضويّته في مجلس الشيوخ، حاول ثلاث مرّات أن يلغي كلّ القيود التشريعيّة التي تمنع التعقيم وإجراءه في العيادات التابعة للقطاع العامّ.

وبولسونارو، كشعبويّ محترف يقدّم دوره الشخصيّ على اللعبة السياسيّة، يحتقر الأحزاب والحياة الحزبيّة. هكذا رأيناه ينتقل في 2018 من «الحزب المسيحيّ الاجتماعيّ» إلى «الحزب الليبراليّ الاجتماعيّ»، ليهجره في العام نفسه، وقد انتُخب رئيساً، ويؤسّس «التحالف من أجل البرازيل». لكنّ شعبويّته تتجلّى في أوضح أشكالها لدى تصنيف مُخالفيه بأنّهم أعداء الشعب، أي خونة، والخونة لا تجوز معالجتهم إلاّ بالسجن أو القتل. وهو إن لم يستعمل هذا الوصف دائماً، فقد فرز السكّان إلى فاضلين وملعونين وأخضعَهم لمراتبيّة صارمة حدودُها لا تقبل العبور والتجاوز.

فإذا كان بديهيّاً وجود كلّ أنواع الاختلاف والتعدّد في أمّة من 212 مليون مواطن ومواطنة ينقسمون إلى إثنيّات عدّة، فالأمر ليس بديهيّاً عند الرئيس البرازيليّ. ذاك أنّ النصف غير الأبيض من المواطنين، وفي عداده السكّان الأصليّون، نصفٌ ملعون. ومثله النساء اللواتي لا ينبغي أن يتقاضَين الأجور التي يتقاضاها الرجال لأنهنّ يحبلن وينجبن. أمّا أصحاب الممارسات الجنسيّة المختلفة، والعلمانيّون الذين يقولون بفصل الكنيسة عن الدولة فهم أيضاً مشبوهون يشوّهون صورة الأمّة والشعب.

بولسونارو ليس سوى واحد من زعماء كثيرين أنجبتهم أزمة الديمقراطيّة وصعود الشعبويّة على نطاق عالميّ. هؤلاء كلّهم، وعلى نحو أو آخر، يضعون السياسة على حدود القتل، والقتل على حدود السياسة، وهم يحكمون كأنّهم يخوضون حرباً أهليّة متواصلة على شعوبهم. فإمّا أن يبقى واحدهم في الحكم إلى ما شاء الله أو أن يُسجن أو يُقتل لأنّه لم يعامل محكوميه إلاّ بالسجن والقتل. هكذا يغدو البقاء في السلطة شرطاً للبقاء على قيد الحياة، وللغرض هذا توصف الديمقراطيّة والليبراليّة بأنّهما ممّا لا يتلاءم مع قيمنا، أي مع قيم حاكم يريد أن يبقى حاكماً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حين تُجعل السياسة صنواً للقتل حين تُجعل السياسة صنواً للقتل



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 19:15 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 16:52 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الإصابة تحرم الأهلي من رامي ربيعة في مباراة الإسماعيلي

GMT 23:44 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

شمال الأطلنطي يحسم بطولة كأس الجامعات القطرية للرجال

GMT 15:27 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

التصميم المميز للزجاجة والروح الأنثوي سر الفخامة

GMT 08:49 2018 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

أليساندرو سارتوري يسرق الأنظار إلى "زينيا" بابتكاراته

GMT 12:55 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

جزيرة منمبا في زنجبار تتمتع بمناظر طبيعية نادرة ورومانسية

GMT 04:30 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الإبلاغ عن العنف الجنسي يعصف بحياة السيدات في الهند
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca