روسيا ـ أوكرانيا: كلّ بعث إمبراطوريّ وهم مُكلف

الدار البيضاء اليوم  -

روسيا ـ أوكرانيا كلّ بعث إمبراطوريّ وهم مُكلف

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

ربّما جاز لمؤرّخ أن يؤرّخ الزمن الممتدّ من الحرب العالميّة الأولى حتّى اليوم بوصفه صراعاً على الإمبراطوريّة: تَفكّكها بنتيجة تلك الحرب ثمّ محاولات متواصلة لإعادة بنائها، محاولاتٌ كلّفت حروباً كثيرة ودماً ودماراً فادحين. حصل هذا في روسيا وفي أوروبا الوسطى وألمانيا واليابان، وبدرجة أقلّ في تركيّا. بعثُ الإمبراطوريّات البائدة كان دائماً وهماً مُكلفاً ينمّ عن مدى التعارض مع وجهة غالبة في الاجتماع السياسيّ كما في العلاقات الاقتصاديّة والتبادل الثقافيّ، وبالتالي عن عدم التقبّل لتلك الوجهة الصاعدة. الدولة – الأمّة ثمّ الديمقراطيّة كانتا، ولا تزالان، الخصم المعلن لمحاولات البعث تلك.
هكذا اكتسب بعثيّو العالم الإمبراطوريّون عدداً من المواصفات:
- تغليب الماضي «المجيد» على الحاضر «الرديء». الماضي معهم لا يمضي.
- وتغليب غير الأوروبيّ على الأوروبيّ، لا بالمعنى الجغرافيّ حصراً، بل بالمعنى الذي يربط الأوروبيّة، ثمّ الأوروبيّة – الأميركيّة، بالديمقراطيّة.
- كذلك تغليب القوّة على خيارات الشعوب الحرّة في السياسات الخارجيّة، والاستبداد على النظام الديمقراطيّ في السياسات الداخليّة.
المواصفات في مجموعها تجعل أصحابها رجعيّين وماضويّين ومتوحّشين.
مؤخّراً، بغزوه أوكرانيا، أعلن فلاديمير بوتين نفسه البعثيّ الأوّل في العالم، وبالتالي أكبر قادة الثورة العالميّة المضادّة لثورات 1989 التي حرّرت عدّة شعوب من رابطة العبوديّة السوفياتيّة بُعيد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ نفسه، وأعطتها دولاً حرّة ومستقلّة.
اصطباغ بعث الإمبراطوريّة بمناهضة الثورة جاء بالغ الصراحة والدلالات: ردّاً على التحوّل الهائل الذي أنجزته «الثورات الملوّنة» بجعلها الثورة مفهوماً مدنيّاً ومتمدّناً، أعيد الاعتبار إلى العنف وعلاقات القوّة العارية. وردّاً على «المجتمع المدنيّ» وتنظيماته، رُفع عالياً «المجتمع العسكريّ»، ثمّ ردّاً على تمتّع الدول الصغرى بسياداتها وحرّيّاتها، أعلن، بوحشيّة قصوى، أنّ السيادة والحرّيّة حكران على الإمبراطوريّة حتّى لو كانت مشروعاً مُتَخيّلَاً.
ولا يصعب عَدّ العلامات التي ترسم طبيعة المحاولة البوتينيّة. فبعد تمارين أوّليّة في استعادة اتّحاد سوفياتيّ لم يقتصد بوتين في التفجّع عليه (جورجيا 2008 وأوكرانيا 2014 وسوريّا 2015 استكمالاً للهيبة الامبراطوريّة ومدّاً لنطاقها)، جدّدت موسكو رفضها «توجّه الناتو شرقاً» من دون أن تتوقّف لحظةً أمام رغبة شعوب الشرق في التوجّه غرباً، كما ركّزت على أوضاع الروس خارج روسيا بمعنى يشابه تركيز النازيّين على «الاضطهاد» الذي تتعرّض له الأقلّية الألمانيّة في السودِتنلاند الحدوديّة، والذي كان تمهيدهم لغزو تشيكوسلوفاكيا. هذه السياسة الحربيّة رتّبت كلفة باهظة على الأوضاع الاقتصاديّة للروس الذين ما زال اقتصادهم يقوم على تصدير الموادّ الأوّليّة، لكنّ البشر، كما نعلم، لا أكثر من وقود لنار المشروع الإمبراطوريّ.
أمّا المناخ الداخليّ والخارجيّ لحرب بوتين الذي حوّل «الأوراسيّة» و«التلاحم من لشبونه إلى فلاديفوستك» نكتةً سمجة لنزعة استبداد آسيويّ صرف، فنراه في المعطيات التالية: أوروبا كلّها ضدّ بوتين، وهو ضدّها كلّها، يهدّدها بالسلاح النوويّ. حليفه الأكبر هو الصين، وحلفاؤه الأصغر هم بشّار الأسد وتابعوه اللبنانيّون والفلسطينيّون. الاحتجاج على الحروب ممنوع في موسكو وسان بطرسبورغ، والنشطاء الذين تظاهروا احتجاجاً سيقوا إلى الزنازين (قارن بالتظاهرات في أميركا ضدّ حرب فيتنام، وببريطانيا ضدّ حرب العراق، وبإسرائيل ضدّ حرب لبنان...). ودائماً لا يفوتنا أنّنا نتحدّث عن نظام يحكمه، منذ 2000، شخص واحد، مباشرةً أو مداورة، شخصٌ باتت التعديلات الدستوريّة تتيح له البقاء في الرئاسة حتّى 2036.
والحال أنّ بوتين الذي استعار من القاموس السوفياتيّ القديم تعبير «الجمهوريّتين الشعبيّتين» في وصف انفصاليّي دونيتسك ولوغانسك، تؤرّقه وراثة الاتّحاد السوفياتيّ كمفهوم حربيّ أوّلاً، مفهومٍ لأجله بُنيت «الاشتراكيّة في بلد واحد»، وصارت وظيفة شيوعيّي العالم الدفاع عنه، ولأجله غُزيت هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وكادت تُغزى بولندا، ومن أجل مصالحه كان يُضحّى بأحزاب شيوعيّة كاليونانيّ في أوروبا والعراقيّ في الشرق الأوسط...
يبقى أنّ واحداً من الأسباب التي مهّدت للبوتينيّة أنّ السوفياتيّة كمفهوم حربيّ لم تُراجَع بالنقديّة التي روجعت فيها الفاشيّة بعد الحرب العالميّة الثانية. فالذين شاؤوا أن يبقوا «يساريّين»، وانتهى معظمهم بوتينيّين، مرّوا على تلك التجربة مرور الكرام أو اعتبروا أنّ التنصّل منها تحصيل حاصل لا يستحقّ الإشارة. هكذا استمرّ نظام قِيم قديم ومتجهّم مدارُه القوّة والعدوان. وكم هو بائس، وكإحدى نتائج ذاك النظام، أن يبدو للبعض ماضي فولوديمير زيلينسكي كممثّل كوميديّ أشدّ فضائحيّة من ماضي بوتين كضابط في مخابرات الامبراطوريّة السوفياتيّة.
لقد ظهرت مؤخّراً أصوات مُحقّة تقول إنّ العقوبات التي تُفرض اليوم على بوتين وروسياه كان ينبغي أن تُفرض بالحجم نفسه بعد غزو جورجيا في 2008، أو بعد الغزو الأوّل لأوكرانيا قبل ثماني سنوات، أو مع غزو سوريّا قبل سبع سنوات. هذا لم يحصل، متيحاً للوهم الإمبراطوريّ المكلف أن يمضي في طريقه غير عابئ بشيء. أغلب الظنّ أنّ المجتمعات الديمقراطيّة، التي صُدمت بالغزو الأخير، سوف تباشر المراجعة لكثير من خرافات المرحلة السابقة في ما خصّ التعامل مع البعث الإمبراطوريّ، وأكبر تلك الخرافات عدم التدخّل دعماً للحرّيّة أو ردعاً لجزّاريها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

روسيا ـ أوكرانيا كلّ بعث إمبراطوريّ وهم مُكلف روسيا ـ أوكرانيا كلّ بعث إمبراطوريّ وهم مُكلف



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca