استعراض قوة الثقافة

الدار البيضاء اليوم  -

استعراض قوة الثقافة

آمال موسى
آمال موسى

في اللحظة التي كان فيها العالم يلتقط أنفاسه بمشقّة، وهو يواجه هجمة الموجة الثالثة من «كوفيد - 19»، وحدوث ما يشبه النكسة في مواجهة الجائحة، تفاجئنا الدولة المصرية بحدث يشد إليها الأنظار، ونعيش بفضله لحظات من الجمال والهيبة والزهو بالحضارة العربية الكبرى التي تنصهر داخلها الحضارات الفرعونية والسومرية وحضارة بلاد الشام والمغرب العربي وغيرها.
طبعاً عرض موكب المومياوات في طريقه إلى المتحف الوطني للحضارة المصرية كان فعلاً غاية في الجمال والإبداع والإبهار، أي أن تنظيم تفاصيل الموكب الحدث كان ناجحاً جداً، وواضح أيضاً أن العقل المدير والمؤطر للمهرجان العالمي التاريخي الذي شاهدناه كان مفرط الذكاء، ومدركاً لأثر الرسالة التي ستُنقل للعالم من خلال هذا الموكب المبهر. صحيح أننا تابعنا عرضاً تتوفر فيه كامل عناصر الفرجة وشد الانتباه، ولكن يبدو لي أن قوةَ ما تابعه العالم السبت الماضي تكمن أيضاً في رسائله الكثيرة والعميقة والمدججة بالمعاني، التي لا بد من تنشيط الذاكرة الإنسانية بها من حين إلى آخر، خاصة في هذه اللحظة الراهنة.

الرسالة الأولى كانت مصرية محضة: كأن الرئيس السيسي وهو يستقبل مومياوات الملوك والملكات كان يقول إن مصر بخير، وتاريخها هو رأس المال الرمزي السخي للدولة المصرية، وإن العظمة المستمدة من الحضارة الفرعونية في تمام العنفوان والانتباه والاستثمار الثقافي الدائم والمتجدد.

أيضاً الرسالة الثانية أن البعد الحضاري والثقافي لمصر هو واجب كل مَن يحكم، وأن الذكاء يحتّم أن يعي الحاكمون روافد ثروتهم الحقيقية.
ولكن في الوقت نفسه، وبحكم أن مصر جزء من العالم العربي والإسلامي، فإن بعض الرسائل كانت تعني جميع العالم العربي الإسلامي، أي أن مصر قامت بتذكير العالم بأن العرب هم نتاج حضارات قديمة، وأنهم أسهموا في الحضارة الإنسانية، وكان لهم باع وابتكارات واختراعات على امتداد التاريخ، بل إنه إذا توقفنا عند فكرة أن التاريخ بدأ مع اكتشاف الكتابة وظهورها سندرك إلى أي حد كان دور المصريين القدامى والسومريين كبيراً ومهماً في انتقال الإنسان إلى مرحلة التاريخ، وخروجه من طور ما قبل التاريخ، باعتبار أن التاريخ بدأ مع اكتشاف الكتابة.
أي أن الرسالة تطالب بالاعتراف بشكل ما، وتقدم دعوة لنفض الغبار عن الحاضر، وعدم سجن الإنسان العربي والمسلم في صور نمطية تظهره عاطلاً عن العطاء والإبداع، والتركيز على حوادث إرهابية لتعميم أفكار تنسف كل إسهامات الحضارات التي ننتمي إليها.

وأمام العنف الرمزي الذي تعرفه مجتمعاتنا ذات التاريخ العريق والغني بالمعنى الإنساني الواسع، يصبح استعراض القوة الثقافية استراتيجية فائقة التأثير؛ سواء للتذكير أو للتعريف بنا، وفق أبجديات التعريف الموضوعية والحقيقية. ولعل ما يزيد الإعجاب بالذكاء المصري هو أن مصر أكثر الدول العربية وعياً بأهمية التاريخ والثقافة، وهذه نقطة تُحسب لها من نواحٍ عدة؛ أولها تفرُّدها بهذا الوعي، أو لنقل: انتباهها المخصوص بهذه المسألة الذي يجلب لها آلياً التقدير والقيمة والنظرة المتفردة نحوها.

وينطوي إعجابنا بالذكاء المصري في تعامله مع التاريخ والثقافة ومعالم الحضارة الفرعونية بشكل عام على نقد لبلدان عربية كثيرة غنية بالتاريخ، ولكنها تهمل تاريخها، ولا تبذل جهداً لتسويقه ثقافياً عالمياً، ولا تقوم بأي عملية من عمليات استعراض القوة الحضارية؛ فأين سوريا ذات التاريخ العريق والقصور الفاتنة والثراء من حيث المعالم من هاجس الاشتغال على ثروتها الحضارية الثقافية؟ بل وأين العراق والحضارة السومرية والتاريخ المترامي الأطراف في كل شبر من التراب العراقي؟ وأين المغرب العربي الثري حتى النخاع بالآثار والثقافة المستمدة من روافد كثيرة؟ أين تونس في استثمار الحضارة البونيقية والفينيقية وقرطاج الرمز وحنبعل القائد الشجاع وما يُسمى قانون عهد الأمان التاريخي، وريادتها في إلغاء العبودية عالمياً؟
إننا كمن يحمل في إصبعه خاتماً مرصعاً بالحجارة النفيسة، ويعامل الخاتم كما لو كان مصنوعاً من نحاس.

لقد اخترنا الانغلاق. تعمق فينا شعور الترفع عن اعتراف الآخر بنا. غرقنا في هزائم الحاضر وتوتراته، ولم نتفطن إلى أن النهوض والخروج من مأزق الحاضر المليء بالوحل يشترط الطموح وتعزيز النظرة المستقبلية، وأيضاً الاتكاء على كنز التاريخ والثقافة لنضمن قامة ممدودة في الفضاء.

انخرطنا في دوامة التنمية الاقتصادية والاستثمار الصعب الممتنع، وتغاضينا عن البعد الثقافي والحضاري، في عملية التنمية الاقتصادية والاستثمار.
كلي ثقة أنه لولا جائحة «كورونا»، والانتقال إلى الموجة الثالثة القوية، لكانت مصر ستعرف خلال الصائفة القادمة قريباً أهم موسم سياحي؛ فما قامت به من استعراض للجمال وللقيمة وللعراقة وللهيبة وللتاريخ كان بمثابة دعاية وإشهار مضمون النتائج.

بيت القصيد: دعوة للبلدان العربية كافة للقيام باستعراض للقوة الثقافية بذكاء وحبّ وهوية موغلة في الامتداد التاريخي... لا شيء غير استعراض الثقافة يمحو ما شاهدته عين الآخر من استعراض لثقافة العنف والإرهاب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استعراض قوة الثقافة استعراض قوة الثقافة



GMT 09:12 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الخضرة والماء والوجه الحسن

GMT 09:08 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

اللبنانيّون وقد طُردوا إلى... الطبيعة!

GMT 09:04 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

الضوء الأخضر للإرهاب

GMT 08:57 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

تايوان... «أوكرانيا الصين»!

GMT 08:52 2022 الأحد ,07 آب / أغسطس

أصوات العرب: جوّال الأرض

GMT 12:18 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف لقاءً مهماً أو معاودة لقاء يترك أثراً لديك

GMT 19:14 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

يبدأ الشهر بالتخلص من بعض الحساسيات والنعرات

GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 17:27 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:11 2019 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

تجنب الخيبات والارتباك وحافظ على رباطة جأشك

GMT 19:18 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 17:59 2019 الثلاثاء ,23 تموز / يوليو

تستاء من عدم تجاوب شخص تصبو إليه

GMT 11:31 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

منع جمهور الرجاء من رفع "تيفو" أمام الترجي

GMT 08:41 2019 الأربعاء ,23 كانون الثاني / يناير

تفاصيل جديدة وصادمة في حادث قتل الطفلة "إخلاص" في ميضار

GMT 06:39 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"بيكوربونات الصودا" حل طبيعي للتخفيف من كابوس الشعر الدهني
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca