كم عمر المفاهيم؟

الدار البيضاء اليوم  -

كم عمر المفاهيم

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

لكل زمانٍ منظومة من المفاهيم والأفكار والأخلاق والقيم، تتطوّر بتطور البشر وبيئاتهم وأحوالهم. والتطوّر له مساران، إيجابي وسلبي، بمعنى أن التطوّر والتغير ثابتٌ إنسانيٌ لا جدال فيه، والإنسان يصنع «المفاهيم» كما أن «المفاهيم» تصنع الكثير من عقول البشر.

لكل مجموعةٍ بشرية في لحظة من الزمان منظومة «مفاهيم» منها الرئيس والمتوسط والفرعي، وهي تترابط فيما بينها وتنشد الإحكام والشمول والترابط، واختلاف المعطيات والظروف ينتج اختلافاً في سيادة بعض المفاهيم أو هامشيتها في انتشارها وتأثيرها أو محدوديتها وعدم فاعليتها.
دون تعقيد أو تشعبٍ، فتاريخ المسلمين -على سبيل المثال- مليء بمنظوماتٍ مفاهيمية تسود وتخبو بحسب الزمان والمكان والمعطيات. فمنظومة «علم الكلام» التي تبحث في «الإلهيات» و«أصول الدين» ولها مسائل كبرى وصغرى من أشهرها «كلام الله»، وهل هو منزّل أم مخلوق؟
وهي التي أثارت على مدى عقودٍ من الزمن جدلاً وفرقةً وتكفيراً وقتالاً بين المسلمين.منظومة «علم الفلسفة الإسلامية» هي منظومة أوسع من ناحية الأفكار و«المفاهيم» ولكنها أضيق انتشاراً من منظومة «علم الكلام» وينطبق الأمر ذاته على علومٍ كبرى في التراث الإسلامي مثل «علم الفقه» و«أصول الفقه» و«علم الحديث».
ويمكن للباحث والمتخصص أن يتصوّر شبكة المفاهيم الكبرى والمعقدة التي تحكم كل هذه العلوم وتتحكم بالتالي في تفكير البشر ورسم خياراتهم في كل ما حولهم. منظومات المفاهيم المتشابكة تعتقل عقول البشر، والانعتاق منها مهمة عسيرة على لأفراد فكيف بالمجتمعات، والأمثلة تختصر الكثير، فلنأخذ منظومة مفاهيم «التطرف» المنتشرة منذ قرونٍ وتلك المتفشية منذ عقودٍ وصولاً لعالم اليوم، فالشابّ الذي لا يرى العالم إلا من خلال منظومة معقدة من المفاهيم المتطرفة لا يكاد يجد منها مخرجاً، فهو يفكر في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم والبشر من خلال «الكفر بالطاغوت» و«الولاء والبراء» و«الجهاد» و«الحاكمية» و«الجاهلية» و«التكفير» ولها عشرات المفاهيم المتفرعة عنها، فهو يحتاج بالفعل لجهدٍ شخصيٍ كبيرٍ وجهود دولةٍ ومؤسساتٍ ومجتمعٍ تساعده على التوازن والانعتاق، وهي مهمة تأخذ سنواتٍ للبناء والإحكام مع النشر والترويج.
منظومة أخرى يمكن أن تقابل هذه المنظومة المتطرفة، وهي تشمل مفاهيم مثل «الإيمان بالله» و«التسامح» و«التعايش» و«الرحمة» و«التنمية» و«الإنجاز» وصناعة «المستقبل» وهي أنفع للناس في دينهم ودنياهم، ولكنها ليست بحجم المنظومة المتطرفة أعلاه، ولا بسعة انتشارها وقوة تأثيرها، ويحتاج العمل عليها لسنواتٍ في مستوياتٍ متعددةٍ وعلى أبعادٍ متباينةٍ.
تحدٍ آخر يواجه أي محاولةٍ لتحريك «منظومات المفاهيم» أن «المفاهيم» الحديثة هي دائماً برسم التحوير وإعادة التأويل وهي مهمةٌ تقوم بها الكثير من الجماعات والتيارات والرموز بهدف ترسيخ القديم داخل عباءة الجديد، وقد رأينا كيف أن مفاهيم مثل «الحرية» و«العدالة» و«المساواة» و«الحقوق» و«البناء» و«التنمية» و«التنوير» أصبحت في سنواتٍ قليلةٍ ماضية اسماً وشعاراً لجماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني، واستخدمت لتسويق نفس المنظومة المفاهيمية القديمة، ولكن بأسماء جديدةٍ فقط.
هذا السياق يوضح أن دعاوى كبرى مثل «نهاية الأصولية» و«انقضاء الإرهاب» هي دعاوى لا تمت للعلم والعقل بصلةٍ، بل هي تنمّ عن سطحيةٍ وجهلٍ بسيطٍ أو مركبٍ ولا يمكن أن تثبت أمام أي معيارٍ علميٍ أو تدقيقٍ منطقيٍ، هذا إذا استبعدنا أغراضاً أيديولوجيةٍ أو مصلحيةٍ وراء تبنّي مثل هذا الطرح المهترئ.
طبيعة البشر وتطورهم طبيعةٌ معقدةٌ وشائكة، والتعامل معها بغية التأثير والبناء والتطوير مهمةٌ جلّى وتستحق كل عناء يبذل فيها. أخيراً، فإن انشغال صانع القرار في الدول الحية والفاعلة بالسياسات الكبرى والصغرى، والتحديات الداخلية والخارجية يوجب أن تكون لتفكيره ورؤاه مراكز دراساتٍ متخصصة وذات معايير عالية تهتم بصناعة المفاهيم وترويجها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كم عمر المفاهيم كم عمر المفاهيم



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج

GMT 16:52 2015 الثلاثاء ,14 تموز / يوليو

كمبوديا تستخدم الجرذان في البحث عن الألغام

GMT 04:44 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميم مجمع مباني "سيوون سانغا" في عاصمة كوريا الجنوبية

GMT 06:28 2017 الثلاثاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

خبير إتيكيت يقدم نصائحه لرحله ممتعة إلى عالم ديزني

GMT 12:22 2016 الأربعاء ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل 7 على الأقل في قصف جوي ومدفعي على حي الفردوس في حلب

GMT 04:48 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمير الوليد بن طلال يؤكد بيع أسهمه في "فوكس 21"

GMT 22:13 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

منتخب غانا يهزم نظيره المصري في بطولة الهوكي للسيدات
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca