الأصولية والطائفية والصراع على الهوية

الدار البيضاء اليوم  -

الأصولية والطائفية والصراع على الهوية

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

الهوية، هوية الأمم والشعوب والأفراد، عميقة الحضور في الماضي وبالغة التأثير في الواقع والمستقبل، وبقدر ما تكون عاملاً رئيساً للبناء والتطوير، فإنها حين تحرّف بعض عناصرها تكون عاملاً رئيساً للتدمير لا على المستوى المادي فحسب، بل على المستوى المعنوي.

هل عرق الإنسان أو دينه أو طائفته أو لغته أو جنسه هي فقط التي تحدد هويته؟ وهل الهوية متعددة أم واحدة، بمعنى أن يكون للإنسان هوية ذاتية وهوية اجتماعية مثلاً؟ وهل الهوية معطى ثابتٌ أم أنها قابلة للتطور؟ هذه ليست أسئلة هامشية تعبر عن ترفٍ فكريٍ، بل هي أسئلة أساسية وعميقة الأثر وبالغة التأثير.
الهوية من جهةٍ يجب أن تكون راسخةً ومتماسكةً تمنح الأفراد والشعوب، والدول والأمم قوةً وفخراً ومن دونها يذوب ذلك كله في الآخرين، وبالمقابل فإن ادعاء ثبات الهوية وجمودها وتصلّبها يمنع أي تطويرٍ بنّاءٍ، ويدفع باتجاه التخلّف والتطرف. وكعادة المفاهيم الكبرى فإن أي انحراف في فهمها وتصورها وتمثّلها -مهما بدا صغيراً- تكون له آثارٌ كارثيةٌ مستقبلاً.

العنصرية على سبيل المثال، هي انحرافٌ لمفهوم الهوية، و«النازية» هي تجلٍ بشعٍ لهذا الانحراف وما يمكن أن يؤدي له من مآسٍ وحروبٍ ودماءٍ وانعدامٍ للأخلاق والمبادئ الإنسانية، فالنازي حين يقتل «يهودياً» بريئاً بسبب دينه أو عرقه يحسب أنه يحمي هويّته ويخدمها، بينما هو يتجرد من إنسانيته وأخلاقه بمثل هذا التوحش الهوياتي.
الأصولية، هي الأخرى، نموذجٌ لهذا الانحراف، لأنها تبني على تفسيرٍ متشددٍ وضيقٍ للدين، يحوّله إلى سلاحٍ قاتلٍ بدل أن يكون رحمةً وتسامحاً، وما فعلته جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها «جماعة الإخوان» وما تفرّع عنها من «جماعاتٍ» و«تنظيمات» على مدى عقودٍ هو أوضح الأمثلة، وكيف يصل هذا الانحراف بالإنسان لقتل الأبرياء وتدمير المجتمعات، بل وقتل والديه، أمه وأبيه، في بعض النماذج فاقعة التوحش التي حدثت في السنوات الأخيرة.
الطائفية، فرعٌ عن الأصولية، وتحويلها إلى سلاحٍ قاتلٍ أدخل بعض الشعوب والمجتمعات في معارك بلا راية وصراعاتٍ دمويةٍ لا تنتهي، ويمكن للمتابع رصد ما يجري في العراق وسوريا وفي لبنان واليمن على مدى عقودٍ أربعةٍ ليكتشف كيف أن انحراف الهوية يمكن أن يحوّل أتباعها إلى وحوشٍ بشريةٍ قادرةٍ على ارتكاب أشرس الجرائم وأقبح الفظائع دون أن يرفّ لها جفنٌ.
«جماعة الإخوان» و«السرورية» و«حزب التحرير» و«تنظيم القاعدة» و«تنظيم داعش» هي انحراف أصولي للهوية و«الميليشيات» الطائفية و«الأقليات المتوحشة» مثل «حزب الله اللبناني» ومثيلاته في العراق ومثل «جماعة الحوثي» هي انحراف طائفي للهوية، وحين يتألم الناس ويستنكرون جرائم هؤلاء جميعاً يدرك القليل منهم أنها جميعاً تعبّر عن انحرافٍ في تأويل وتمثّل «الهوية» وبالتالي فشأنها عظيم الأثر، وليست مما يمكن تركه للمجتهدين والناشطين الذين تكاثروا بشكل غريب في السنوات الأخيرة.
بالمقابل، فإن دولاً عربيةً مهمةً مثل دولة الإمارات والسعودية تقدم نماذج رائعةٍ لترسيخ الهوية وتطويرها وتوظيفها في خدمة الحاضر والمستقبل، فهما تغوصان عميقاً في كل عناصر الهوية من دينٍ وعروبةٍ ولغةٍ وتوظفان مفاهيمها الأساسية في بناء الحاضر وتطوير المستقبل، ويمكن مقارنة ما تصنعه هاتان الدولتان بما تصنعه دولٌ إقليميةٌ تتبنى الانحرافات السابقة لمفهوم الهوية أصولياً أو طائفياً لمعرفة حجم الفروق الكبرى التي يمكن للتعامل الصحيح والخاطئ مع «الهوية» أن تنتجها.
أخيراً، فالصراعات السياسية الصاخبة التي تتصدر الأخبار اليوم داخل العراق ولبنان واليمن، وكذلك في باكستان وأفغانستان وعلى الرغم من تفاصيلها المعقدة وتطوراتها المتشابكة هي تعود في الأصل إلى الصراع على «الهوية».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأصولية والطائفية والصراع على الهوية الأصولية والطائفية والصراع على الهوية



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 14:23 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

عبدالرحيم الوزاني يطالب لقجع بجلب مقر "الكاف" إلى المغرب

GMT 19:03 2019 الجمعة ,22 آذار/ مارس

فيلم «نائب».. عبقرية الكوميديا السوداء

GMT 21:54 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

أفضل زيوت تدليك الجسم و المساج

GMT 09:41 2017 الأربعاء ,18 كانون الثاني / يناير

عماد متعب ويارا نعوم يكشفان أسرار حياتهما في "كل يوم"

GMT 21:47 2017 الجمعة ,07 إبريل / نيسان

إدارة السجون تكشف وضع على عراس في "تيفلت 2"

GMT 09:56 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أهم وأبرز إهتمامات الصحف الجزائرية الصادرة الأربعاء

GMT 14:26 2017 الإثنين ,12 حزيران / يونيو

التدليك الحل السحري للتخلص من المشكلات الصحية

GMT 02:23 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

كولم كيليهر يؤكد أنّ المملكة السعودية سوق جاذبة للاستثمار

GMT 08:30 2016 الثلاثاء ,27 أيلول / سبتمبر

حملة أمنية على محلات درب عمر بسبب الدمى الجنسية

GMT 00:14 2015 السبت ,28 شباط / فبراير

استخدمي طرقًا بسيطة للحصول على فضيات مميزة

GMT 15:48 2016 السبت ,02 إبريل / نيسان

الزواج المبكر فى مصر يتراوح بين 13-15%
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca