بيروت - الدار البيضاء اليوم
مُعيبٌ أن يبحثَ شعبٌ عن حلِّ خلافاتِه الداخليّةِ لدى دولٍ أجنبيّة. وقُبحٌ أن يَختلقَ شعبٌ خلافاتٍ داخليّةً خِدمةَ دولٍ أجنبيّة. ومَعصيةٌ أن يَستعينَ طرفٌ داخليٌّ بدولٍ أجنبيّةٍ ضِدَّ شريكٍ له في الوطن. وإثمٌ أن يُعطّلَ طرفٌ جميعَ التسوياتِ الداخليّةِ ويَرفُض بالمقابل حلًّا تأتيه به دولٌ صديقة. لبنانُ، الذي عاش جميعَ هذه الحالات، يواجِه الآنَ الحالةَ الأخيرة: البحثُ عن حلٍّ دوليّ لقضيّتِه. ما كنا لنَقبلَ الاستعانةَ بصديقٍ لو لم يُقفِلْ أطرافٌ لبنانيّون جميعَ منافذِ الحلولِ الوطنيّة. تصميمُنا الذَهابُ إلى المجتمعِ الدوليِّ لإعلانِ حِيادِ لبنان يؤكّد قرارَنا بإنقاذِ لبنان. أجريمةٌ أن نَطلبَ حقَّ التقاعدِ من حروبِ المِنطقةِ وصراعاتِها؟بلادُنا اليومَ أمامَ احتمالين: إما أن نَتّفقَ على تحييدِها حِفاظًا على وِحدتِها وصيغتِها وسيادتِها، وإما أن نُشَرّعَ أراضيها ومياهَها لإقامةِ قواعدَ عسكريّةٍ تَحميها من مشاريع الهيمنةِ. وما كان البطريركُ المارونيُّ، مار بشارة بطرس الراعي، يطرحُ مَنفَذَ الحيادِ إلا لكي لا يَعودَ اللبنانيّون إلى عهودِ الحمايات الأجنبيّة. هذا طرحٌ وطنيٌّ يتخطّى الإصطفافَ السياسيَّ والحزبي. والّذين تَضايقوا من التفافِ أطرافِ “المعارضة” حولَ دعوةِ البطريرك، ما الذي مَنعَهم هم من أنْ يَلتفّوا أيضًا حولَها عوضَ النقدِ والنقِّ والنَدْب؟إنتظارُ الحلولِ الداخليّةِ بات مَضْيعةً لا للوقتِ بل للوطن. وانتظارُ الإجماعِ لطلبِ “نجدةِ الدولِ الصديقة” مُخالفٌ مَبدَأَي الديموقراطيّةِ العاديّةِ (أكثرية وأقليّة) والديموقراطيّةِ التوافقيّة (الأكثريّة الميثاقية). علمًا أنَّ مشروعَ الحيادِ لقيَ تأييدًا مُتعدّدَ الطوائفِ والمذاهبِ وصار يَنطلِقُ من أكثريّةٍ لبنانيّةٍ مريحةٍ، ومن أكثّريةٍ عربيّةٍ ودوليّةٍ وازِنة. لماذا يَفرِضُ البعضُ الإجماعَ للتدويل، فيما الإحتفاظُ بسلاحٍ خارجَ الشرعيّة لا يحوزُ على إجماعٍ، ولا على توافقٍ، ولا على أكثريّةٍ عدديّةٍ وميثاقيّة؟
إنَّ “حزبَ الله” أمامَ خِيارٍ جوهريّ: إعلانُ سيطرتِه الرسميّةِ على لبنان وسيَلقى حينئذ مُقاوَمةً، وهو يُدرك ذلك. وإما الإنخراطُ الجِدّيُّ في الحلِّ الوطنيِّ وسيُفاجَأ حينئذ بمدى الإحتفاءِ به، ونحن واثقون من ذلك. لكنّه لا يستطيعُ أن يُبقيَ البلادَ أسيرةَ عقيدتِه ونهجِه وسلاحِه وارتباطاتِه. كما لا يستطيعُ أن يُضحّيَ بأمنِ لبنان وخبزِ اللبنانيّين من أجلِ المشروعِ الإيراني، وأن يَتجاهلَ مواقفَ المكوّناتِ الأخرى. هو هنا، ونحن هنا أيضًا. وحبّذا لو نكونُ معًا.إنَّ “حزبَ الله” يُشَكّلُ، رُغم قوتِّه العسكريّةِ والمعنويّةِ، نُقطةَ ضعفِ العهدِ وحكوماتِه، وبخاصّةٍ هذه الحكومة. في مرحلةِ تحريرِ الجَنوب طَرح الحزبُ نفسَه جُزءًا من قوّةِ لبنان، أما اليوم فهو ضُعفُه الأساسيّ. ما قيمةُ السلاحِ مع الإنهيارِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والماليِّ والاجتماعيّ؟ بل ما قيمةُ قوّةِ “حزبِ الله” مع ضُعفِ الدولة إلّا إذا كان يَعمل على وراثتِها؟ ما كان الوضعُ اللبنانيُّ يَبلغُ التدويلَ اليومَ لولا مواقفُ “حزبِ الله”. هو الـمُدَوِّلُ. الأطرافُ اللبنانيّون الآخَرون ليسوا هواةَ تدويلٍ، ويُفضّلون بلْورةَ حلٍّ لبنانيٍّ عبرَ حوارٍ مستقلٍّ شرطَ ألّا يكونَ ملهاةً كما كانت الحواراتُ السابقة.منذ سنةِ 2006 و”حزبُ الله” ينقَلِبُ على توصياتِ هيئاتِ الحوارِ الوطنيِّ ويُعلّقُ تنفيذَ البعضِ الآخَر. ولـمّا وافَق سنةَ 2012 على “إعلان بعبدا” الذي نصَّ، بإجماعِ الأطراف، على وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّة، سُرعان ما تَنَكّر له. ما كان رفضُه آنذاك مُوجَّهًا ضدَّ الرئيس ميشال سليمان، إذ حالَ أيضًا دون أن يدعوَ الرئيسُ ميشال عون إلى وضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ التزم بها بعدَ انتخابِه أمامَ الدولِ العربيّةِ والأجنبيّة.
لذلك، ونحن نَتوجّهُ إلى “حزبِ الله” بهذه الصراحةِ العابرةِ الطوائفَ اللبنانيّة، حريُّ أن نُكلّمَ الشرعيّةَ اللبنانيّةَ أوّلًا: حَتّامَ ستَبقين رهينةً؟ وحَتّامَ تَتفرّجين على سقوطِك وسقوطِ البلد؟ ماذا فَعلتِ وتَفعلين لإنقاذِ لبنان، وأنتِ المَعنيّةُ والمسؤولةُ عن سيادتِه واستقلالِه واستقرارِه ووِحدةِ أراضيه وحياةِ شعبه؟ بل ماذا فعلتِ وتَفعلين لاستعادةِ كرامتِكِ وسلطتِكِ وهيبتِكِ واحترامِ مؤسّساتِك؟ هل تَظنّين أن تأليفَ هذه الحكومةِ الغليظةِ الذِّهنِ يُروِّحُ عن النفْس؟ هل تَعتقِدين أنَّ الدعواتِ إلى مجالسِ الوزراءِ ومجالسِ الدفاع وإلى اجتماعاتٍ مُرتجَلةٍ في بعبدا هي المبادراتُ المُنقِذةُ التي يَنتظرُها منكِ اللبنانيّون؟ هذه مُنتدياتٌ لتَمويه التنازلِ عن السيادةِ والقرار. أعرِفُ مَن يُسامحُ لِمَن يُسيءُ إليه، لكنّي لا أعرِفُ دولةً تدافعُ عمَنْ يُسيء إليها ويُصادرُ قرارَها وسلطتَها!!في مثل هذه الظروف، يُفترَضُ بقيادةِ الدولةِ أن تُحضّرَ ورقةَ عملٍ تتضمّنُ بندًا واحدًا: مصيرُ سلاحِ “حزب الله” في إطارِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ تَستفيدُ شرعيًّا من جميعِ قدراتِ اللبنانيّين العسكريّة. وعليه يدعو رئيسُ الجُمهوريّةِ، العماد ميشال عون، المؤتـمَنُ على الدستور، إلى لقاءٍ وطنيٍّ يُباركُ القرارَ الدستوريَّ (توحيد السلاح) بمنأى عن أكثريّةٍ وأقليّةٍ، فلا مكانَ لأكثريّةٍ وأقليّةٍ أمام الدستور. مفهومُ التوافقِ يبدأُ بعد اعتمادِ الحيادِ لا قبلَه. هكذا تَتصرّفُ الدولُ والشعوبُ التي تَحترمُ نفسَها. وهكذا تَدوم الدولُ وتَستحِقُّ أن تُحييَ ذِكرى تأسيسِها. دولةُ لبنان لا تَستأهِلُ أن تُحييَ لا عيدَ التأسيسِ ولا عيدَ الاستقلال ولا عيدَ الجلاء ولا عيدَ الشهداء ولا عيدَ التحرير، فهي دولةٌ فاقدةُ السيادةِ وتحت الوصاية. وهي دولة عَبثَت بكلِّ تلك الإنجازاتِ التاريخيّة.
لا يَحتملُ الوضعُ المتردّي المراوحةَ ولا الإرجاء. إنه زمنُ “قولِ الحقيقةِ مهما كانت صعبة”. كلُّ يومٍ يمرُّ نتأخّرُ فيه عن اتّخاذِ القرارِ المُنتَظَر، القرارِ الوطنيّ، القرارِ المُنقِذ، نَقترِب من المحظور. إقتربَت لحظةُ الخِيارِ النهائيّ ولحظةُ الامتحان: مَن يريدُ لبنانَ الواحد بدولتِه الشرعيّة، ومن يُريد لبنانَ المُبعثَرَ دويلاتٍ غيرَ شرعيّة؟ يكاد البلدُ يَسقُط والبعضُ يَعزِف نشيدَ اللامُبالاة.المطلوبُ أن تَتضافرَ الجهودُ وتلتقيَ الطاقاتُ في إطارٍ وطنيٍّ حولَ مشروعٍ إنقاذيٍّ مشترَك: “الحِيادُ الناشِط”. دولُ العالم تَجتمعُ لتساعدَنا ونحن نَتفرّقُ ونُعاديها. رجاءً اسْتفيقوا…تعالوا نَتخطّى الجمودَ والحذَرَ من بِعضِنا البعضِ ونَلتقي. خَطوةٌ واحدةٌ: خَطوةُ محبّة، خَطوةُ شراكة، تُنقِذُ لبنان. فقبلَ أن نذهبَ شرقًا أو غربًا، فلنأتِ إلى لبنان. حينئذ: الله يَصيرُ حزبَنا.سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
الاتّكالُ على أميركا رهانٌ مُقلِق
جماعة الحوثي تُنفِّذ حملة مداهمات ضد التجّار ورؤوس الأموال في صنعاء