كشفت الأحداث الأخيرة المتسارعة التي لحقت بنواة حزب العدالة والتنمية، ومنها إعلان العثماني عن الأحزاب المشاركة في حكومته ومنها الاتحاد الاشتراكي الذي كان عقدة المنشار في البلوكاج الحكومي على عهد رئيس الحكومة المعزول والذي قال إن دخول الاتحاد خط أحمر قبل أن يتضح أنه «ماشي شي حمورية نيت»، (كشفت) أن هذا الحزب ليس بالتماسك والقوة التي يظهر بها، فعلى الرغم من البكائيات التي تخطها نسوة الحزب على حيطان صفحاتهن الفيسبوكية، خصوصا آمنة ماء العينين ونجلة بنكيران التي وصفت قادة الحزب بالمداهنين وعباد المناصب، فإن الوقائع كشفت أن هناك ثلاثة تيارات جارفة تخترق الحزب وتهدد بتفتيته ونسفه من الداخل، خصوصا بعدما دخل الفيل الاشتراكي متجر الأواني الفخارية للحكومة وقال الداودي إن الحكومة التي أعلن عن أحزابها العثماني ليست هي الحكومة «اللي كان باغي»، مسكين «هاد العثماني، حتى دبح عاد بغا يمضي الجنوية».
ولعل التيار الذي ظهر بشكل بارز بعد صدمة عزل بنكيران وتنصيب العثماني محله هو تيار عزيز رباح الذي انكشف للجميع حجم الكره الذي «يتمتع» به داخل مجموعة بنكيران المقربة، والدليل القاطع على صدور توجيه من الأمين العام بقطع الماء والضوء عن رباح هو ترشحه لرئاسة الفريق النيابي للحزب في البرلمان وحصوله على صوت واحد هو صوته لا غير.
ولذلك سارع رباح إلى إعلان ولائه للعثماني رئيس الحكومة المكلف عندما قال إنه لا يمكن أن يكون الحكم برأسين، في إشارة إلى ضرورة جمع العثماني بين رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب، وهي رسالة واضحة إلى بنكيران لكي ينسى حلم ولاية ثالثة على رأس الحزب.
وفي نظري فقد كانت إهانة بنكيران للرباح في أكثر من مناسبة وتسليطه عليه انكشاريته الإلكترونية المقربة لكي تصوره كجاسوس مدسوس داخل الحزب لديه ارتباطات مشبوهة مع جهات في الدولة خطأ سيدفع ثمنه، فتصرف بنكيران العدائي مع رباح لم يكن بسبب الارتباطات المشبوهة لرباح، فبنكيران نفسه بدأ حياته السياسية مخبرا صغيرا لدى الكوميسير الخلطي قبل أن يترقى هو والرميد ويصبحا من أزلام إدريس البصري الذي هندس بهما مخطط الحكومة الملتحية منذ التسعينات.
ولكن السبب الحقيقي في حملة بنكيران على رباح هو أن بنكيران بحاسته السياسية كان قد انتبه إلى الطموحات الجامحة لعزيز رباح الذي يحاول تقديم نفسه في صورة اللين الحداثي والمنفتح، لذلك طلب منه في تجمع لشبيبة الحزب بمدينة أكادير «يشد الصف»، كما أوعز إلى عناصر من شبيبته بتقديم استقالات من الهياكل التنظيمية للحزب على المستوى الإقليمي والجهوي بمدينة القنيطرة وجهة الغرب التي يتحكم رباح في خيوطها التنظيمية، كما اندلعت ضده ثورة تنظيمية بقيادة أخت وزير العدل مصطفى الرميد، المحامية المثيرة للجدل رقية الرميد، التي قدمت استقالتها وتحاول إقناع مجموعة من العضوات والأعضاء الفاعلين لضرب رباح تحت الحزام، كما نجحت في إقناع البرلماني السابق عزيز كرماط الذي قدم بدوره استقالته بعدما أبعده رباح من لائحته في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بعدما فطن لمخططه الهادف إلى الانقلاب عليه بمجلس القنيطرة.
وإلى جانب تيار رباح هناك تياران يتنازعان اليوم صدارة المشهد داخل العدالة والتنمية، تيار «إنا عكسنا» الذي يدعي أصحابه الاصطفاف إلى جانب رئيس الحكومة المعزول، وتيار آخر يجسده العثماني يشكل الحكومة «باش ما عطى الله»، فاتحا الباب على مصراعيه أمام لشكر الذي قال فيه بنكيران إنه «إلى دخل للحكومة هيا أنا ماشي عبد الإله»، فأحيانا الله حتى رأينا عبد الإله يغادر الحكومة ويدخلها لشكر معززا مكرما من الباب الكبير لمقر الحزب بحي الليمون.
وما يجمع بين كل هذه التيارات المتصارعة هو ما يسود اليوم من تخوف كبير داخل الحزب من انتقال عدوى «الكولسة» إلى الحسم في أسماء المرشحين للحصول على حقائب وزارية، أي أن العثماني بمجرد ما سينتهي من عقد صلح الحديبية في دار الندوة حتى سيجد نفسه في مواجهة معركة داحس والغبراء التي ستندلع داخل الحزب بسبب الطموحات الشخصية الهوجاء للإخوان الطامعين في الاستوزار.
وربما من أجل تجنب حضور هذه المعركة رفض بنكيران ترؤس لجنة اختيار المرشحين للاستوزار التي أبدى هذا الأخير شراسة في الدفاع عن المساطر المنظمة لها والتي أطلقت يد الأمين العام في اختيار الوزراء، بحيث أعطته حق اختيار وزراء حتى من خارج الحزب والمرشحين الثلاثين.
وقد ترأس هذه اللجنة صاحب وثيقة «صلح الحديبية» سليمان العمراني، مما يكشف أولا أن بنكيران انتهى في المشهد الحزبي والسياسي، ومما يكشف ثانيا أن بنكيران يهرب من تحمل مسؤولية اختيار وزراء حزبه، خصوصا أن مسطرة اختيار الوزراء تقوم على الانتخاب والتصويت بدل الاحتكام إلى معايير الكفاءة والتجربة المهنية، مما يتسبب في إقصاء الأكفاء واختيار ذوي «الشعبية» داخل الحزب حتى ولو كانوا فارغين، وأمامنا أمثلة من قبيل التجربة الفاشلة لبوليف في الشؤون العامة ووزارة النقل، والشوباني الذي «حتى دخل الوزارة عاد بغا يكمل قرايتو».
والواقع أن الإخوان داخل حزب العدالة والتنمية ليسوا كلهم على قلب رجل واحد، فمنهم من يريد العودة إلى الحكومة بأي وجه لأنه ذاق حلاوة الكرسي، وهناك جدد «شادين الصف» ويتحرقون شوقا للانتقال من بيوتهم الاقتصادية إلى فيلات الهرهورة وطريق زعير، وتغيير سياراتهم، ولم لا زوجاتهم أيضا، وهناك منهم من يعرف أنه بدون حظوظ للدخول فيسعى لرفع «البارة» أعلى ما يمكن لتأزيم الوضع، وهناك من يطالب بعدم إعادة استوزار الأسماء التي حملت حقائب وزارية خلال الولاية الحكومية الماضية وفتح المجال أمام أسماء أخرى، وأيضا هناك حملة ضد استوزار عمداء المدن التي يقودها «البيجيدي»، تفاديا لتكرار الخطأ الذي ارتكبه الحزب خلال الولاية الحكومية السابقة، بعدما منحت حقائب وزارية لعدد من رؤساء المجالس الجماعية، وتفادي الجمع بين المناصب والمسؤوليات.
والواقع أن بنكيران بتكريسه لثقافة عبادة الشخصية، تماشيا مع الثقافة السطالينية التي تسود داخل التنظيمات الإخوانية، مسؤول بشكل كبير عن خلق هذه التيارات الانشقاقية، هذا إذا لم يكن قد ساهم عن قصد في خلق هذه التيارات لكي تعصف بالحزب من بعده حتى لا تكون للتنظيم قائمة بدونه.
ولذلك يجب أن نقرأ حديث سليمان العمراني عن «صلح الحديبية» قراءته الصحيحة، فهو يعد الأجواء لتبرير خضوع العثماني لمطلب دخول لشكر في الحكومة وقبول بنكيران أيضا بذلك بوصفه الأمين العام للحزب الذي يقود المفاوضات، أي أن هذه التشكيلة الحكومية ضرورة فرضتها مصلحة الأمة، تماما مثلما فرض السياق التاريخي للدعوة عقد صلح الحديبية بين المؤمنين والكفار والمنافقين واليهود.
فإيديولوجية قادة العدالة والتنمية تقوم على تقسيم المغاربة إلى مؤمنين وكفار، فهم ينظرون إلى أنفسهم ومؤيديهم على أنهم معسكر الإيمان، أما بقية المجتمع فيمثلون معسكر الكفر، وتصريح العمراني «تحالف الحديبية» يؤكد ذلك، وهو تصريح كان يجب أن يتلقى عنه صاحبه استدعاء من الفرقة الوطنية لأنه لا يقل خطورة عن التصريحات التي توبع بها بعض أعضاء شبيبة حزبه.
وهم لا يكتفون بتقسيم المجتمع إلى فرقة ناجية يمثلونها هم وفرقة ضالة تجمع كل من يخالفهم الرأي، بل إنهم يقسمونه أيضا إلى وطنيين وخونة، فهم مثلا يعتبرون العثماني بنعرفة لأنه قبل أن يأخذ مكان بنكيران، الرئيس الشرعي.
فهم بهذا الإسقاط التاريخي يشبهون النظام بالاستعمار الذي نفى بنكيران إلى بيته وعين مكانه العثماني.
ولكم استغرب من سمعوا وزير العدل والحريات مصطفى الرميد يقول إنه لن يكون بنعرفة الحزب بقبوله أخذ مكان بنكيران وهم يرونه «واقف مبندر صدرو ومخرج كرشو» خلف العثماني وهو يقرأ أسماء الأحزاب المشاركة في «تعالفه الحكومي».
لكن العثماني ليس أهبل لكي يفوت على حزبه فرصة الدخول إلى الحكومة، حتى ولو تطلب ذلك إدخال لشكر، لأنه يعرف أن الحزب لديه خمسة آلاف مستشار جماعي، ويسير ثلثي المدن الكبرى وجهتين هما درعة والرباط.
ولذلك فالعثماني يرفض التنازل عن غنيمة الحكومة، لأن خلال خمس سنوات التي قضاها العدالة والتنمية في الحكم قام بغزوة داخل الإدارة العمومية، ليس فقط على مستوى التعيينات في المناصب العليا، بل في التعيينات في رؤساء المصالح ورؤساء الأقسام، المسؤولين عن حوالي نصف مليون موظف.
مناصب المسؤولية هذه هي القريبة من الموظفين، ويحسم فيها الوزير لوحده وليس المجلس الحكومي كمناصب المدراء والكتاب العامين.
ورؤساء الأقسام والمصالح الذين ينتمون للعدالة والتنمية ليس من مصلحتهم تخلي الحزب عن الحكومة.
وهناك أيضا جانب اقتصادي للحزب في تشكيل حكومة بقيادته، فخلال خمس سنوات من وجود الحزب في السلطة شهد المغرب فورة تأسيس المقاولات الصغرى والمتوسطة التابعة للبيجيدي، وما أخ بوانو وابن أخت سليمان العمراني وابن أخت الشوباني ومصطفى بابا سوى أمثلة بسيطة للمقاولين الجدد.
لذلك فالشعارات التي يرفعونها اليوم والتي يهللون فيها لدخول الحكومة من أجل استكمال ما بدؤوه فيها كثير من الحقيقة، فهم فعلا شرعوا في تأسيس شركاتهم وتشييد فيلاتهم وشراء ضيعاتهم وعقاراتهم وهم محتاجون لخمس سنوات لاستكمال مشاريعهم.
وعليه فالحزب مدعو لتعديل شعاره من «صوتك فرصتك لمواصلة الإصلاح» إلى «صوتك فرصتنا لمواصلة إصلاح وضعيتنا الاجتماعية»