المختار الغزيوي
باستمتاع بالغ تابعت السبت الماضي سهرة “نغنيوها مغربية”، على شاشة القناة الثانية “دوزيم”. رأيت في البرنامج الذي يعده الباحث في الموسيقى عبد السلام الخلوفي عودة أكثر من رائعة لكبير الراي المغربي ميمون الوجدي، ولحظة اعتراف فعلية بما قدمه هذا الرجل لهذا الفن الذي عرف به الجمهور العريض في ثمانينات القرن الماضي خصوصا من خلال سهرات الأقاليم.
تذكرت وأنا كلي امتنان تلك السهرات، وتذكرت الكبير رشيد برياح أيضا وأغنيته ذائعة الصيت “يامينة بالسلامة” التي أداها في الحلقة ذاتها من برنامج السبت على دوزيم. ووجدتني أطرح السؤال، إن كنا اليوم وبعد مرور كل هاته السنوات على توقيف تلك السهرات المباشرة التي كانت تنظم في مدننا وأقاليمنا، وتبث مباشرة كل سبت على شاشة القناة الوحيدة الموجودة آنذاك في البلد “إتم” قد حققنا المراد من انتقادات تلك اللحظة لتلك السهرات أم أننا حققنا العكس؟
أتذكر أن ملاحق التلفزيون الأشهر في ذلك الزمن كانت ملاحق الاتحاد والاستقلال، وأتذكر جيدا أن الكلمة التي التصقت في أذهاننا ونحن في بداية الصبا وبداية التعرف على الأشياء عن تلك السهرات جراء قراءة “الاتحاد الاشتراكي” و”العلم” هي إما عبارات “سهرات الأقاليم والجبال” أو “سهرات التشييخ”.
وأتذكر أننا كنا نتابع تلك السهرات بافتتان حقيقي في منازلنا، لأنها كانت ملاذنا الفني الوحيد بعد الإذاعة وأشرطة الكاسيت القديمة، وكنا نجد صعوبة كل إثنين في التوفيق بين متابعتنا المكثفة لتلك السهرات ورقصنا رفقة العائلات خلال متابعتها وترديدنا للأغاني التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، وبين متابعتنا لما كانت تكتبه صحف المعارضة آنذاك وشبه اقتناعنا أن تلك السهرات التي كانت تمتعنا للغاية كان الهدف منها هو “تضبيعنا وتشييخنا وإلهاؤنا عن الانتقال الديمقراطي” وبقية الترهات التي كانت تكتبها صحف المعارضة سامحها الله آنذاك، والتي اكتشفنا مع توالي السنين أنها كانت كذبا في كذب.
فيما بعد ومع تقدم الأيام شرع المرء في استيعاب أمر هام للغاية: الفن أبقى من السياسة بكثير، وأطهر منها بكثير، وأهم منها بكثير.
وعندما كشرت الحرب عن أنيابها بقوة بين التيارات المتطرفة التي ترفض الفن، وتعتبره حراما وإلهاء للناس عن الدين والشريعة وبقية الكلام الذي يشبه لكن بلبوس ديني هذه المرة كلام المعارضة السياسي في السابق، استوعبنا أن التطرف/الغباء -سواء كان سياسيا أم دينيا- يهاجم أول مايهاجم الفن والثقافة لأنه يعرف أنه يستطيع التغلب على كل شيء بسهولة ولا يستطيع أبدا أن يهزم الغناء أو الشدو أو التمثيل أو الرقص أو الرسم أو الكتابة الإبداعية أو بقية الفنون
تطاوله يمتد إلى كل شيء ويعجز عن المساس بالفن، لذلك استوعب المرء أن الفن باق وأن بقية التفاهات عابرة، تماما مثلما قالها الكبير الراحل منذ أيام أمبرتو إيكو حين أكد في حوار معاد من حواراته أن الإنسانية تنسى كل الحروب والمآسي وكل السياسيين وكل مايرتكب فيها وتتذكر المتن الإبداعي ولا تنساه أبدا وهو الأكثر قدرة على البقاء
لذلك فهمنا متأخرين جدا أن حربا حقيقية تم خوضها ضد ذاكرتنا الفنية، ضد قدرتنا على الغناء، على الرقص على الفرح، ولذلك وجدت شخصيا ووجد معي آخرون كثر في معركة الدفاع عن المهرجانات الفنية معركة إنسانية وحضارية تليق بمن كان منتميا لأمة حية مثل الأمة المغربية
أبدا لا يتعلق الأمر بالدفاع لا عن سهرات عابرة، ولا عن مغني تافه ولا عن راقصة مارة. الأمر هنا يتعلق بقدرتنا على الدفاع عن حقنا في الإبداع، وفي رؤيته، وفي إعلان الحياة والترنم بها والشدو برناتها ممكنا
من يقول لي إن الأمر لايستحق كل هذا العناء، أعرف أنه إما يخاف الفن أو يعاديه وإما أنه لم يتذوقه بما فيه الكفاية ولم يرتفع لعوالمه، وربما وجب الصبر عليه قليلا إلى أن يكبر وأن ينضج وأن يفهم معنى الحكاية ككل
في انتظار ذلك، أعادتني “دوزيم” إلى لحظة الثمانينيات تلك وإلى ميمون وهو يترنح فوق الخشبة بين أجيال من المغاربة الراقصين والراقصات والميكروفون القديم أمام فمه ويده على آلة الأورغ التي كانت تبدو لنا عجبا آنذاك والكلمات تنساب بتلقائيتها “صدمة كبيره..
والقلب كان ديجا فحيره
زرة توالي زره..
ورياح جاره
هرسي ما لقيت لو جبيره
وليام ماره..
فصولها تتقلب، الحكاية مريره
أولها غيره”