بقلم عبد الحميد الجماهري
كل من حاول أن يلخص حياة محمد عبد الرحمان برادة في بورتريه، بحدود في الزمن والمكان، خسر المعركة..
لهذا أدخل هذه الشهادة بكثير من الإحساس بأنني سأنهزم حقا في رسم روحه الواسعة على ورقة أو في أغنية.
ولهذا أيضا لا أعرف إن كان يحق لي أن أكتب عنه، وأنا قد عرفته أقل من قمر
وأكثر من ظل غيمة
تعبر حقول الحياة، مشيَ السحاب، إذا قارنت الزمن الذي عرفته فيه بحياته العريضة … العريضة مثل ابتسامة نقية في وجه صبي، في لوحة انطباعية جميلة..
من أنا لكي أكتب عن محمد عبد الرحمان برادة، الذي صنع لي جزء من لغتي عندما سهر ، بحرص مكتشف الحروف الفينيقية الأول، على إدارة الجرائد بين المطبعة وبين.. العقل؟
من أنا لأسمح لنفسي بأن أقول محمد عبد الرحمان برادة استضافني، لأقل من عقد في عالمه الساحر، بحرص كاهن بوذي، هادئا ، منتبها، معلما وصديقا بأن المرور عبر كل مراحل الصداقة الواجب اتِّباعها مع النبلاء؟
أنا مجرد صحافي، مناضل وشاعر غرير يحاول أن يدعي بأنه قادر على أن يحبه أمامكم، بخجل المعتذرين عندما يسرفون حقا في شراب الروح، ثم بدون سابق إنذار يغادرون الحفلة!
وحده يستطيع أن يرتب قلبه حفلة لكل الناس،
ففي قلبه يلتقي الأديب والإعلامي، والناشر والمثقف والطابع ، يلتقي المواطن، والفنان والأجنبي العارف بالبلاد أو العارف بأعطابها والمحاور الجيد لصناع الرأي العام ،
وعندما يصمت، يكون الصمت مشهدا لغويا حافلا بالدلالات ..
هذا ما أريد أن أقوله عنه وعاطفته!
وحده يستطيع أن يعيش بلا أعداء، لأنه بكل بساطة لا يستطيع ، بل لا يحتمل أن يكون له أعداء، والذين حاولوا ذلك كثيرا ما تعبوا من قدرته على…. حبهم!
محمد عبد الرحمان برادة، وهو ينتقل بك من عمق الثقافة العربية إلى عمق الثقافة الفرنسية، تفاجئ نفسك تتابع قبَّرة تطير بخفة، من صوت أم كلثوم إلى صوت شارل أزنافور..!
ومن استعارة في قصيدة رومانسية لأحمد شوقي إلى بلاغة حادة في نثرية جاك بريفير، تجد فيه مجاورة ذكية لماسينيون وطه حسين..وكلفتني مجاراته هو، ساعات إضافية في تعلم الآداب أو في تعلم الأغنيات ..!
ولهذا أيضا يحب دائما بأكثر من لغة ولا يكره بأية لغة كانت، لكنه يعاتب بما يستطيع أن يعاتب به:كلام يسيل رائحة أو عطرا في الهواء ..!
في البداية ، رأيناه، في التعريف العام للتاريخ الصحافي الوطني، مثل أولئك المهاجرين، الذاهبين من شرق العالم إلى غرب أمريكا، ليستكشفوا البخار والسكة الحديدية، وهو جاء إلى عالم الصحافة لكي يبحث للعناوين الصحافية عن سككها، ومثل خرائطي قديم، كان عليه أن يجد للصحافة المكتوبة، التي كانت تملك قسطا من التاريخ الموزع بكلل كبير بين الشمال والوسط ، جغرافيا محددة ، بين الأكشاك وبين المقرات الرسمية وبين أيادي القراء:
كما لو أنه كان يعرف قراءة اليد التي ستقرأ الجريدة، لهذا رفع في تحد كبير شعار.. »جريدة لكل مواطن«..
كان لي مرات، رفيق المسافة بين يأسين
أو بين ضجرين..
عندما أيأس من البشرية المناضلة يمد روحه جدارا يظللني:فكم مرة رفعتنا كلماته إلى مرتبة الصابرين ، لأن الحظ أسعفني بوجوده في لحظة الشتات العاطفي أو النضالي أو السياسي..
وعندما أضجر من تركيبة السياسة والعذاب في أوضاع لا تحتمل التحمل، يسعفني ببيت شعر، أو بقصة أو بيد »ممتدة نحوي كيد مُدت لغريق»..
.
سيتحدث أعزاء آخرون عن السي محمد -هكذا نسميه بيننا- وهو يجوب العالم، دفاعا عن قدرة الثقافة في صناعة الإنسان، وكيف يمكن للكتاب أو الجريدة أن يتحولا إلى احتمال واضح للحرية..سيتكلمون عنه وهو يرمي الجسور بين أهل الكتاب والكتابة، لعله يجبر الكلمات على إلغاء الفارق بينها وبين الشمعة، في ترتيب التطور البشري نحو السمو..
لكني سأتحدث عن الرجل الشهم الذي شد بيدي وقادني إلى مخبأ السوسنة، بأريحية فيلسوف قديم ، يقود مريديه إلى مصطبة المعرفة:فقد فتح لي عوالم ما كان لي أن أدركها، بمحض قدرتي على الفضول أو على الكفاح..
له قلب لا يضاهى، لهذا أيها الأصدقاء في كل مكان ، صدقوني حين أدعوكم لكي تضعوا اسمه في المكان الوحيد الذي يليق به:القلب، والمكان الذي يستريح فيه :الريشة!
ربما لا يعرف كثيرون، أن هذه طريقتي في الاعتذار له، عن عجز واضح في الغناء مع الزملاء الذين احتفوا به في طنجة،
وربما هي طريقة في أن أقترح وضعه ، في منطقة عازلة من ضيق الدنيا، أي حيث الله يوزع الطيبوبة كل فجر على العيون النائمة وعلى البشر الاستثنائيين!
كان بودي أن أعالج هذه الشهادة بغير قليل من مرادفات الجمل التي تبشر بقدرته على الإنصات، كأي رجل دولة منذور لخدمة بلاده،
وهو كذلك، لكن فضلت دوما أن أرى فيه رجل .. تاريخ.
كما يفعل الذين ينذرون أنفسهم للأشياء النبيلة والطاعنة في الشهامة..
عرف ، بسليقة صوفي بارع في الفرح أن المهمة الأولى لفائدة الوطن هي خلق رجال سعداء وحكماء ومتفانين.. والباقي تصنعه الأيام..
لهذا ينصت إليه بإمعان، ويحاوره بإصرار ، كل الذين يودون أن يكون البلد حكيما في مسيره نحو الغايات العالية.
ولهذا أيضا يفسح مجالا واسعا للفكاهة لكي تعوض الحياة عن بعض أعطابها التي تطرأ، ولكي يشد الانتباه أحيانا إلى جدوى الحاسة.. السادسة!
له عاطفة واسعة بما يكفي لتحمي جيلا كاملا من الأصدقاء من كل الأنواء
وعاطفة واسعة تمسح على رؤوس اليتامى .. والأرامل
وعاطفة واسعة لكي تصوب المشاعر نحو سمائها الصافية..
وله عاطفة طازجة دائما، لها من ينتظرها دوما لكي يضمد قلبه..
يا محمد، اسمح لي أني لم أكن في ذلك اليوم حيث كان يجب أن أكون، لكنك بدون أن تدري وضعت لي أولويات تجعلني أرى في كل خدمة للناس عربون محبة لك..
واعذرني إذا أنا لم أعرف دائما كيف أعتذر حين يجب أن أعتذر..لكني أسمعني وأنا أغني كما تحبني أن أغني للبلاد
وللشمس
وللشرق
وللنيل
وإذ يقول الكثيرون ما يقول الكثيرون عني، ستبتسم وتنتظر أن أعيد محبتك من جديد
دمت كما أنت ،
مليئا بقلبك ومليئا بك
ضاجا بما فيك من تفرد..!
***في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي كان علي أن أتقدم أمام حفل تكريم السي محمد بطنجة وأفضح قلبي ..