استطلاعات الرأي والشعوب الجديدة

الدار البيضاء اليوم  -

استطلاعات الرأي والشعوب الجديدة

بقلم : عبد الحميد الجماهري

لم تعد استطلاعات الرأي عين الديمقراطية على الشعوب، في ما يبدو اليوم، بعد توالي التخمينات الخاطئة، فقد مرت، على الأقل، ثلاثة امتحانات كبرى، تبين فيها أن الشعوب تنام على لاشعور مختلف عما يتحدث عنه أصحاب الرأي، أو أصحاب استطلاعاته، ذلك أن التوجهات التي أفرزتها صناديق الاقتراع في ثلاث دول ديمقراطية، لا غبار على ديمقراطيتها، كانت عكس كل الاستطلاعات، على الرغم من وجود قوى المال أو المؤسسات «establishment» في ضفة واضحة.
في اسكتلاندا وبريطانيا والولايات المتحدة، كانت الصحافة الرسمية، العريقة، وحلقات الفنانين الكبار وذوي النفوذ وصناع الرأي العام، يقفون إلى جانب النظام الذي أثبت جدارته الديمقراطية، الارتباط بالتاج البريطاني، أو يقفون إلى جانب الروح الأوروبية الوحدوية، خروج بريطانيا من الاتحاد البلجيكي الأوروبي (بريكست)، أو يقفون إلى جانب الممثل المطمئن الجدير بالحلم الأمريكي: هيلاري ضد ترامب، غير أنه لا «هوليوود» ولا «التايمز» ولا «الغارديان»، ولا غيرهم من مكيفي المزاج العام، التقطوا الموجة القادمة من الأعماق والسائرة ضد النظام القائم، سواء كان جغرافيا أو ديمقراطية.
لن يكون هذا التحول مجدياً للغاية ربطه بالشبكات التواصلية الجديدة، حصريا في حربها ضد الأقانيم التي رسختها ثقافة القرن الماضي، من إعلام ولوبيات ضغط ومؤسسات مالية وشساعات صناعية.. إلخ. إذ من الواضح أن تعدّد الإخفاقات ينم عن مشتركٍ ما بين هذه الكيانات، والدول، على الرغم من تنافر تجربتها في مزاولة السياسة، أو تطبيق الوحدة الوطنية أو تدبير الأزمات.
وقد صدّقت النخب، لهذا السبب، وزمناً طويلاً، أن الرأي العام في بلدانها يكاد يكون انعكاساً لاستطلاعات الرأي، وليس العكس، كما تفترض البداهة الحسابية والسياسية معاً. بل صار التوظيف الإجرائي لهذه الاستطلاعات، كما تحبها النخب، أحد الأهداف غير المعلنة في تكييف الرأي العام لصالح هذه الأطروحة أو تلك... وعليه، صدّقت النخب أنها يمكن أن تخلق شعباً من رحم استطلاع الرأي.
هذا الانعكاس المفاجئ الذي أظهر صناع الاستطلاعات مثل قارئات الفنجان في المخيال الشعبي، أثبت أيضاً أن الشعوب يصعب تحنيطها إلى الأبد، أو قياس هذا التحنيط تبعاً للوقائع، كما يعيشها أصحاب القرار وحدهم.
ولمّا صارت السياسة نوعاً من السوق المفتوح، منذ أبدعت البشرية التواصلية مفهوم «الماركوتينغ» السياسي تحولت الشعوب، ومن دون إرادتها، إلى نوع من الخيول التي تدخل السباق، من دون معرفة مناخه أحياناً في الوقت الذي تقدّمها الاستطلاعات، كما لو أنها «صانعة استراتيجيات».
حقيقة الأمر، كما يبدو من توالي الفشل في سبر أغوار الشعوب، هو أن هناك لاشعوراً نائماً في جوف الأرض يستيقظ، لكي يتوجه نحو البحث عن «هويةٍ جديدة غير معلبة». وقد تكون رجعية ذات عنصرية، كما في حالة دونالد ترامب، أو مجرد حنين إلى تاريخ الأنا الجماعية، كما في حالة بريطانيا.
نعم، الهوية ليست حظ الفقراء فقط، ولا حق الشعوب المؤمنة، والسادرة في لاهوتها الرحب والطيب والمطمئن، بل الهوية هي قلق المواطن الغربي من جنوح العالم إلى تشييئه، بموافقته. ولهذا يختار لوجوده وجوهاً تبدو قريبة منه، فيحب الشعبوية، ويفضلها على شعبية السياسيين المكرّسين، والذي ظلوا أمامه مثل تماثيل الحرية والعدالة، في ما هو يغوص في بداهة البؤس اليومي.
غير أن ما لا تفقده هذه الشعوب هو أريحيتها الديمقراطية، إذ لا أحد يخرج، بعد أن تفشل هذه الاستطلاعات، ليشكّك في النتيجة، بل يعتبر الفاشل أنه كان بعيداً عن حقائق معيشة، وعن تشكل وعي جديد، مهما كان سلبياً ضد النظام القائم أو نظام المؤسسات، فاستطلاعات الرأي، بما هي ضامنة، حملة انتخابية مستمرة، تفقد، أيضا، الكثير من إغرائها اليوم، لأنها أصبحت طقساً للتصويت، أكثر منها محاولةً لمعرفته جيداً، وصارت أيضا في تقدير من لا يصدقونها نوعاً من الدفاع عن النظام الاجتماعي القائم، بل وسيلة أصحاب القرار من سياسيين وإعلاميين وصناع الثروة،. إلخ... لكي تحافظ عليه.
ونحن؟ لم ندخل بعد خانة الرأي العام، لكي تكون لنا أدوات استطلاعه.
هناك، في أحسن الأحوال، استمزاجات السلطة نزوعات شعوبها، وربما «طلعات رأي» على المعارضين، تقوم بها مراكز الأمن بالأساس.
عن موقع «العربي الجديد»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استطلاعات الرأي والشعوب الجديدة استطلاعات الرأي والشعوب الجديدة



GMT 11:40 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تتمتع بسرعة البديهة وبالقدرة على مناقشة أصعب المواضيع

GMT 18:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس

GMT 12:24 2017 الثلاثاء ,22 آب / أغسطس

عودة الإلترات

GMT 07:22 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

زوري أيسلندا للتمتع بمغامرة فريدة من نوعها

GMT 01:38 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

ميغان ماركل تنوي شكر صديقاتها في حفلة زفافها الثانية

GMT 06:54 2017 الخميس ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

رائد محسن يوضّح كيفية تربية الأطفال بالطرق الصحيحة

GMT 05:59 2016 الأحد ,07 شباط / فبراير

5 حيل ذكية لتهدئة بكاء الطفل سريعًا

GMT 12:20 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

حسين فهمي وشيري عادل يفضلان الرسم ومحمد رمضان يعشق الرياضة

GMT 00:17 2018 الجمعة ,26 تشرين الأول / أكتوبر

جامعة بريطانية تتيح درجة البكالوريوس في "البلايستيشن"
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca