بقلم : عبد الحميد الجماهري
هل يحق لدول الشرق الأوسط وغربه أن تناقش خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
يستحق السؤال الذي لا يخلو من نزوعٍ استفزازي، مع ذلك، أن يدخل مختبر العقل السياسي، ولو من جانب ما طرحه تكسير الوحدة الأوروبية من نقاشٍ بشأن إعادة تأصيل مفهوم السيادة الوطنية، وعودة الدولة الوطنية في الغرب المتقدم ومآل التكتلات الاقتصادية في ظرفٍ دولي عنيف، ميزته عودة الجيو-استراتيجية.
وقد سبق أن تناول صاحب هذه السطور، في «العربي الجديد»، بمناسبة مناقشة تجديد ولاية الأمين العام للأمم المتحدة، معضلةً غاية في التعقيد، تتعلق بما أسماه الإيطالي أنريكو ليطا عودة الجيو-استراتيجية والدولة الوطنية. ويعتبر أمثال ليطا أن العالم اليوم تتحكّم فيه حالة قلقٍ إنسانية عامة تتميز بعودة متزامنة للجيو –استراتيجية، ولمركزية الدولة الوطنية، باعتبار أنهما خضعتا لتهميشٍ كبير في الفترة التي تحكمتْ في العالم أوالياتُ الأزمةِ الاقتصادية والمالية. ويقولون: عادت المقاربة الجيو استراتيجية بقوة، بفعل قضايا الإرهاب والأمن والهجرات، كقضايا تستأثر بالاهتمام لدى الدول والشعوب.
أما عودة الدولة الوطنية، مُحاوراً مركزياً في السياسة الدولية، فسببه الميوعة التي أصبحت عليها المنظمات المتعدّدة الأطراف، من قبيل الاتحاد الأوروبي، وعجزها عن التعامل مع القضايا المذكورة.
لنحاول أن نفهم قليلا ما الذي فهمه الأوروبيون أنفسهم من جهلهم بما وقع!
أولاً، لأول مرة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تفتح العجوز أوروبا بابها، لا لكي يدخل ضيف جديد، بل لكي يغادر بيتها ساكن قديم.
قد لا يهتم جزء من شعوب الشرق الأوسط بالمآلات السياسية والجغرافية الدولية، أو السلام الدولي، بقدر ما سيعيدون النظر تكراراً في نتائج … البورصة، وما تحمله من تهديداتٍ على أموالهم المهاجرة بعيداً عن اقتصاديات بلدانها، لا سيما وقد تكبّدت البورصة ما لم تتكبّده منذ 15 سنة على الأقل. قد تؤدي هذه النتائج الأولية لإعلان خروج البريطانيين من الاتحاد الأوروبي إلى الريبة والشك في القدرة الأوروبية علي استقطاب الاستثمارات، ومنها العربية. وعليه، سيكون رد الفعل مالياً وريعياً أكثر منه تاريخي واستراتيجي.
ثانياً، كان التدفق الإعلامي الذي رافق الاستفتاء، في كليته تقريباً، مناصراً لبقاء البريطانيين في الحديقة الأوروبية. هكذا دافعت «الغارديان» و»الإندبندنت» و»الفاينانشيال تايمز» و»ذي إيكونوميست» و»الدايلي ميرور»، كلها إمبراطوريات إعلامية لم تستطع تكييف المخيال البريطاني على البقاء في حضن القارة العجوز.. وفاز روبرت مردوخ، لأنه انحاز للانفصال، فربحت النزعة الانطوائية. واستطاع الملياردير أن يهزم نعوم تشومسكي، في عقر خياله الوحدوي. والواقع أن التوجه العام انهزم أمام المفاجأة الصاعدة من الغيب الديمقراطي: لا أحد تصور أن الهزيمة ستلحق بالتيار الذي يهيمن، بشكلٍ قوي، على الفضاء العام، ولا أحد انتبه إلى أن موجة عمقٍ بشريةٍ كبيرةٍ لا تفكّر كما تريد لها استطلاعات الرأي والتحليلات المهيمنة. وهو منزع ظهر في الانتخابات السابقة في كل من اليونان وإسبانيا، عندما أثبتت الحركات البسيطة النابعة من الغضب على أوروبا أنها قادرة على التسلل من بين الصخور العملاقة التي تجسّدها الهيئات والتيارات الكبرى، وتقلب المعادلات، وتخلخل أفق الانتظار.
ثالثاً، في أوروبا اليوم نزوع قوي نحو التشظي، نحو معاداة الروح الأوروبية، عبر التعبيرات الشعوبية واليمينية المتطرفة أو «العزوف» الحضاري للشعوب الأوروبية، المنتشية سابقاً بالوحدة، بل في أوروبا نزوع نحو معاداة شكل كلاسيكي للممارسة الديمقراطية، عبر التيارات المعروفة. ومن سوء حظنا أننا لا نحسن الوحدة، كما لا نحسن الديمقراطية. لهذا، قد لن نُحسن التفكير في غيابهما أو تراجعهما، في قارةٍ رأت فيهما الحل للحروب والاقتتال والنزعات الفاشية. فازت في إيطاليا حركة النجوم الخمس ببلدية روما وتورينو على سبعة أحزاب تقليدية. وفي إسبانيا، فازت حركتان بعيدتان عن التصنيف المهيمن. وفي النمسا، تمكّن حزب اليمين المتطرف من الصعود الكبير، ولم توقفه سوى ردود فعل حزبٍ جديد للخضر، وقس على ذلك.
وشعوب العرب ونخبهم، إذا ما هي وجدت وقتاً ما للتفكير في أشياء أخرى غير الحروب والمذابح، كيف ستفكر فعلياً؟
عليهم، بكل بساطةٍ أن يسألوا بخوف: هل ستتحرّر بريطانيا غداً من أجل أن تكون بدون قيود سياسية والتزامات أخلاقية أوروبية، لنفخ حياة جديدة في «سايكس بيكو» بفكرة «الأطلانتيزم» أي لنزعة الأطلسية (رفقة الولايات المتحدة)؟. فالعرب لم ينجحوا في إقامة الدولة الوطنية، لكي يستعيدوها، كما أنهم ما زالوا في التربة بين القبيلة والبورصة كاحتمالٍ جغرافي، ينتظر، في أحيان كثيرة، المختبر الدولي، لكي تتحدّد ملامحه، بل تعيش المنطقة مرحلة اللادولة واللاوطن معاً، كما تركتها «سايس بيكو» الأولى. وتظل الجيواسترايجية، بالنسبة لهم، شبيهةً إلى حدٍّ بعيد بجلسة سمر، تليه عاصفة، فيهرب الهاربون، وينتظر المنتظرون سماءً جديدة للإقامة تحتها، وتحت الحماية الدولية. ولعلهم غير معنيين بالخوف حتى، لأنهم لا يعرفون التصويت الذي يتيح للمسؤول الأول، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، فرصة أن يمتحن اعتناقه الديمقراطية وإيمانه بها، بالاستقالة عند الفشل. وهم غير معنيين أيضاً إلا في حالة أن يكون موضوع الأثر لا مصدر التأثير، لأنهم لم يعرفوا معنى الوحدة من قبل، لكي يتحسّروا عليها، أو يتشبثوا بها، وأعتقد أن كثيرين من العرب المنغلقين في قُطْرية جوفاء سيعتبرون أنهم كانوا على حقٍّ، لأنهم لم يدخلوا وحدةً خرجوا منها… بالتصويت. وهم لم يؤمنوا بشعوبهم من قبل، لكي يتابعوا شعوب الآخرين ذات مرة، ويتعلموا منها العلاقة بين صندوق الاقتراع وصناعة التاريخ.