العثماني أول الإسلاميين العلمانيين

الدار البيضاء اليوم  -

العثماني أول الإسلاميين العلمانيين

حسن طارق

يواصل الطبيب النّفساني والقائد السياسي، في الواقع، الاشتغال على الأطروحة الرئيسية التي تُهيمن على مُنجزه الفكري وأسئلته البحثية في مؤلفاته السّابقة، خصوصاً منها «في فقه الدين والسياسة» و»تصرفات الرسول بالإمامة» و»الدين والسياسة تمييز لا فصل».
في هذه السلسلة، ينطلق العثماني من التّشخيص الذي يُقرّ بغموض الرؤية وتشوشها، بصدد موضوع طبيعة الدّولة داخل الإسلام، ثم في ما يُشبه إعلاناً للتعاقد مع قراءِ نُصوصه، يَضعُ لنفسه الإطار المنهجي لمساهمته، مُحاولة في إعادة صياغة الفكر الإسلامي المتعلق بموضوع الدّولة. وإذا كان من شأن هذا الإطار أن يجعل سقف انتظارات المُتلقي متواضعاً، فإنه، في المقابل، يرسم حدوداً واضحةً لتناول الكاتب نفسه الإشكالات الحارقة للموضوع.
ينهضُ تحليل وزير الخارجية المغربي السّابق على الحرص على التأصيل الشرعي لقاعدة التمييز الواضح بين أمر الدنيا وأمر الدين، ليرتكز، بمنهجية المماثلة المنطقية، على هذا التمييز بين الديني والدنيوي، رافعةً مناسبة للدفاع عن التمييز بين الديني والسياسي، اعتماداً على مستنداتٍ تُرجح اندراج السياسة ضمن «عاديات» المجال الدنيوي، وانطلاقاً من تعريف علماء الإسلام أنفسهم السياسة الشرعية، ومن التمييز بين تصرفات الرسول السياسية عن التشريعية/ الدينية. وبعد التأسيس المنهجي لتمثل المجال السياسي مجالاً للممارسة المدنية وللمقاصد، يستعرض الكاتب مستندات اعتبار الدولة في الإسلام دولة مدنية، انطلاقاً من أن الدولة أعلى مستويات الاجتماع السياسي.
أولى هذه المستندات أن الكتاب والسنة لم يحدّدا شكلاً للنظام السياسي في الإسلام، وثانيها أن سمات الدولة المدنية متوفرة في نظرة الإسلام للسلطة، وثالثها يتعلق بالتمييز بين أمة الدين، حيث تُهيمنُ رابطة الأخوة العقائدية وأمة السياسة، حيث تسود رابطة الانتماء الوطني. ويتعلق المستند الرابع، ضمن الأفق التحليلي نفسه، بالتمييز بين المبادئ السياسية في الإسلام وأشكال تطبيقاتها عبر التاريخ. ويتعلق المُستند الخامس بأن القرآن الكريم يعتبر الأمة هي الأصل في التكليف الديني للمؤمنين، وهو ما يفسّر، حسب المؤلف، عدم ورود الدولة في الكتاب المُنزل، لا مصطلحاً ولا مفهوماً. وفي هذا السياق، لم يكن ممكناً على المُؤلف أن يقتصد في مسألة النقاش حول الخلافة الإسلامية التي اعتبر أنها ليست نظاماً سياسياً محدداً، ولا نموذجاً معيارياً للقياس، بل مجرد تجربة تاريخية وممارسة بشرية وإنسانية.
الأصل في ذلك، بالنسبة للكاتب «حيادية النظام السياسي» الذي يبنيه المسلمون، باعتباره بناءً بشرياً اجتهادياً، يمكن أن يملكه مواطنون غير مسلمين، كما يمكن اقتسامه نموذجاً مع مجتمعات أخرى، وهو ما يجعل مصطلح «الدولة الإسلامية» مليئاً بالالتباس والغموض، خصوصاً عندما يُفهم منه أن الله تعالى أمرنا بإنشاء هذه الدولة تماماً، مثل ما أمرنا بالصلاة والصوم.

إذا كانت قراءة نُصوص العثماني تؤكد انخراطه في صف الدفاع عن خيار التمييز بين الدين والسياسة أطروحةً ثالثةً تقف على مسافة من أطروحة الإسلام، ديناً ودولة، ومن أطروحة الفصل بين الدولة والدين، فإنها، في المُقابل، تنتصرُ منهجياً للتأصيل الإسلامي لفكرة الدولة المدنية بعيداً عن الاستعمال السياسوي والتكتيكي للخطاب حول مدنية الدولة من بعض القوى «الإسلامية»، والذي ساد في لحظة ما بعد انفجارات 2011، مُنتجاً، في حالات كثيرة، مفاهيم هجينة، من قبيل الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية.
على المُستوى الفكري والنظري، لا تحمل مُساهمة العثماني جِدّة كثيرة، خصوصاً عندما نستحضر ما كُتب حول «العلمانية الجزئية» أو «الدين العلماني»، لكن القُبّعة الحركية للكاتب تمنح لأطروحته أفقاً واسعاً ضمن مُمكنات تجديد الفكر السياسي الإسلامي، من زاويتي البحث عن المُشترك الإسلامي/العلماني، والاشتباك مع أفكار الحداثة السياسية.
والواقع أن العثماني راكم، منذ سنواتٍ، ريادةً واضحةً في هذا السياق، فقد صاغ، في الثمانينيات، كتيباً/وثيقة حول «الفقه الدعوي.. مساهمة في التأصيل» التي أسّست لبداية المراجعات الكبرى التي قادت إلى تغيير الموقف الإسلامي من قضايا الدولة والشرعية، ثم كتب، سنوات بعد ذلك، حول «المُشاركة السياسية في فقه ابن تيمية»، دفاعاً عن فكرة المُشاركة، ليُساهم، في بداية الألفية، في صياغة وثيقة حول «العدالة والتنمية من الهوية إلى التدبير»، دفاعاً عن تمييز واضحٍ بين السياسي والدّعوي في العمل الحركي الإسلامي، وهو اليوم، بهذه السلسلة الجديدة من المقالات، يضع الرِّجْل الأولى للإسلاميين المغاربة في القارة «الرّجيمة» للعلمانية .
أستاذ العلوم السياسية ونائب برلماني
عن «العربي الجديد»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العثماني أول الإسلاميين العلمانيين العثماني أول الإسلاميين العلمانيين



GMT 05:57 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

ما حاجتنا إلى مثل هذا القانون!

GMT 05:52 2023 الإثنين ,07 آب / أغسطس

الوحش الذي ربّته إسرائيل ينقلب عليها

GMT 13:01 2023 الإثنين ,22 أيار / مايو

منطق ويستفاليا

GMT 09:32 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 04:57 2022 السبت ,31 كانون الأول / ديسمبر

‎"فتح الفكرة التي تحوّلت ثورة وخلقت كينونة متجدّدة"

GMT 18:21 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

متى وأين المصالحة التالية؟

GMT 18:16 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

درس للمرشحين الأميركيين

GMT 18:08 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

التيه السياسي وتسييس النفط

GMT 11:50 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 11:56 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 13:15 2020 السبت ,16 أيار / مايو

بريشة : هارون

GMT 22:06 2018 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

كيفية التعامل مع الضرب والعض عند الطفل؟

GMT 00:54 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"المغرب اليوم"يكشف تفاصيل أزمة محمد رشاد ومي حلمي كاملة

GMT 20:23 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مسرحية "ولاد البلد" تعرض في جامعة بني سويف

GMT 22:59 2017 الخميس ,12 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت تزيين الطاولة للمزيد لتلبية رغبات ضيوفك

GMT 16:49 2017 الثلاثاء ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

العراق يستلم من إيطاليا تمثال "الثور المجنح" بعد ترميمه رسميًا

GMT 08:07 2017 الأربعاء ,16 آب / أغسطس

شبكات التواصل بين السلبي والإيجابي

GMT 02:07 2017 الأربعاء ,10 أيار / مايو

كواليس عودة " عالم سمسم" على الشاشة في رمضان
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca