ظاهرة التمهيديات

الدار البيضاء اليوم  -

ظاهرة التمهيديات

بقلم : حسن طارق

ذهب من جديد ناخبو “شعب اليسار” يوم أمس الأحد، للمشاركة في الدور الثاني من “الانتخابات التمهيدية المواطنة”، الخاصة باختيار مرشح اليسار خلال الاقتراع الرئاسي المنتظر خلال الربيع المقبل بفرنسا، والتي تنافس في دورها الأول ستة مرشحين ومرشحة ينتمون إلى الحزب الاشتراكي أساسا، وإلى بعض تنظيمات اليسار والحساسيات البيئية المتحالفة في إطار الائتلاف الشعبي.

وقبل ذلك بأسابيع، كانت قد جرت تمهيديات  (Les primaires)، خاصة باليمين والوسط، أفضت في دورها الأخير إلى اختيار الوزير الأول الفرنسي السابق “فرنسوا فيون”، مرشحا باسم اليمين الجمهوري للانتخابات الرئاسية.

وبذلك يتكرس تقليد “الانتخابات التمهيدية” داخل الممارسة السياسية الفرنسية، إذ بعد أن انطلق في البداية داخل الحزب الاشتراكي، كاجتهاد يساري خالص، سينتقل بعد ذلك إلى معسكر اليمين، ممثلا في حزب الجمهوريين الذي استطاع إنجاح استحقاقه الأخير على كل المستويات، بما في ذلك، أساسا، مستوى الأداء السياسي ودرجة الإقبال الجماهيري.

يتعلق الأمر في الواقع، بتمرين تنظيمي وسياسي وإعلامي ضخم، يتطلب إعدادا لوجستيكيا وماديا وبشريا، وتعبئة “جيش” من المناضلين والمتطوعين، وسلسلة من مكاتب التصويت، وتأطيرا قانونيا وسياسيا يُعهد في الغالب إلى هيأة عليا تتولى صلاحيات الإشراف والبت في الترشيحات وإعلانها، والتحكيم بين المرشحين، وصولا إلى إعلان النتائج النهائية .

الميزة الأساسية لهذا التمرين الحزبي، هي بالضبط انفتاحه على عموم المواطنين، دون الاقتصار على أعضاء الحزب أو الأحزاب المنخرطة في مشروع الانتخابات التمهيدية. ذلك أن كل ما يُطلب من الراغبين في المشاركة هو التوقيع على وثيقة إعلان الالتزام بالقيم إما لمرجعية يمينية أو يسارية (حسب الحالة)، مع أداء واجب مالي رمزي (حُدد في مبلغ 2 أورو في تمهيديات اليمين والوسط، ومبلغ أورو واحد في تمهيديات اليسار).

كثير من المحللين يذهبون إلى حد اعتبار هذه التجربة الجديدة ستكون بالتأكيد ذات آثار بالغة ومهيكلة على النظام السياسي للجمهورية الفرنسية الخامسة، ذلك أن الانتخابات التمهيدية قد تُصبح مع تواتر تجاربها، بالرغم من عدم انتظامها ضمن الهندسة الانتخابية الرسمية، حلقة محددة لمسار اختيار رئيس فرنسا .

وإذا كانت هذه الانتخابات تعتبر تمرينا على الديمقراطية الداخلية، باعتبارها شكلا حضاريا لتدبير التنافس والطموحات، بل وعلى “الديمقراطية المواطنة”، باعتبارها تكريسا لفعل المشاركة المجتمعية في القرار الحزبي، فإنها في المقابل قد تعبر عن أزمة قيادة تعرفها الأحزاب السياسية الفرنسية، خاصة التقليدية منها، ذلك أن التباري على الترشيح للاقتراع الرئاسي، قد يعني، كذلك، عجزا في الفرز الطبيعي والتلقائي للقيادات السياسية، كما قد يعني بالضرورة أزمة شرعية للقيادات المنتخبة في المؤتمرات العادية للأحزاب .

أبعد من هذا التحليل، قليلا، يذهب البعض إلى أن هذه الانتخابات التمهيدية، تُخفي في الواقع أزمة أعمق، ليست سوى أزمة الأحزاب السياسية نفسها، حيث لم تعد هذه الأخيرة قادرة على التعبير عن الحيوية السياسية للمجتمع، وهي الحيوية التي أصبحت قادرة على إنتاج ديناميتها خارج الحدود التنظيمية للأحزاب السياسية، وهو ما تعكسه قوة بعض الترشيحات المحسوبة على الصف التقدمي، كما هو الحال بالنسبة إلى كل من “ميلونشون” و”ماكرون”، وهي الترشيحات التي تحقق حولها التفافا كبيرا لقطاعات واسعة من الرأي العام، رغم أنها لا تستند إلى الخلفية الداعمة للحزب الاشتراكي مثلا .

ومن الواضح أنه في مواجهة رهان وحدة كتلة اليسار، كشرط واقف لحضور صوت اليسار في الدور الثاني لرئاسيات مايو 2017، سنعيش تبادلا للحجج خلال هذا الأسبوع، بين الفائز في الانتخابات التمهيدية لليسار (غالبا “بونوا آمون”)، والذي سيتمسك بخطاب الشرعية “الانتخابية” القائم على عدد الناخبين المشاركين في هذه الانتخابات، وبين أنصار كل من “ميلونشون” و”ماكرون”، والذين سيتمسكون بخطاب شرعية “الرأي العام” المعبر عنها من خلال نتائج الاستطلاعات حول نوايا التصويت خلال الانتخابات الرئاسية.

عموما، تشكل الانتخابات التمهيدية اليوم ظاهرة سياسية حقيقية، حيث الآراء حولها تتوزع بين من يعتبرها انفتاحا للسياسة على المواطنين، وإنهاءً لحقبة “احتكار” السياسة من طرف بُنى حزبية تقليدية ومغلقة، وبين من يعتبرها شكلا آخر من أشكال تسطيح التنافس السياسي المبني (افتراضا) على البرامج والعمق، وانتصارا جديدا لثقافة الفرجة، حيث الصورة تعوض الأفكار، ووسائل الإعلام تعوض الأحزاب السياسية، وخبراء شركات التواصل يعوضون مثقفي الحزب ومنظريه و”إيديولوجييه”، والمستهلك يعوض المواطن، لكي يعوض “النجم” في الأخير “الزعيم”.

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظاهرة التمهيديات ظاهرة التمهيديات



GMT 09:40 2019 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

فعول، فاعلاتن، مستفعلن.. و»تفعيل» !

GMT 06:51 2018 الثلاثاء ,13 آذار/ مارس

من يسار ويمين إلى قوميين وشعبويين

GMT 07:57 2018 الثلاثاء ,06 آذار/ مارس

أسوأ من انتخابات سابقة لأوانها!

GMT 06:13 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

خطة حقوق الإنسان: السياق ضد النص

GMT 07:07 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

المهنة: مكتب دراسات

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:22 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تعاني من ظروف مخيّبة للآمال

GMT 17:59 2019 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء محبطة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 02:12 2018 السبت ,07 تموز / يوليو

قطار ينهي حياة شيخ ثمانيني في سيدي العايدي

GMT 10:19 2018 الثلاثاء ,17 إبريل / نيسان

"خلطات فيتامين سي" لشعر جذاب بلا مشاكل

GMT 13:54 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

نصائح مهمة لتجنب الأخطاء عند غسل الشعر

GMT 13:08 2017 السبت ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام فعاليات "ملتقى الشبحة الشبابي الأول " في أملج
 
casablancatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

casablancatoday casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday casablancatoday casablancatoday
casablancatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
casablanca, casablanca, casablanca